العام الأوّل من «عهد» رئيس الجمهورية ميشال عون اختتم بـ«لقاء تلفزيوني» واستقالة حكومة. في اللقاء التلفزيوني بمناسبة مرور العام الأوّل، حرص الرئيس عون على التأكيد بأن ما أنجز كان استراتيجياً، ويضمن حصر الخلافات من الآن فصاعداً في الإطار السياسي بين اللبنانيين، واستبعد حصول حرب اسرائيلية جديدة على لبنان. لم يجار عون ما حاول صحافيو فريق «حزب الله» في اللقاء جرّه اليه من اعلان تثبيت معادلة «جيش وشعب ومقاومة»، فأظهر الطابع الانقسامي لهذه المعادلة بين اللبنانيين، لكنه احتمى، بمعنى من المعاني وراء هذا الإنقسام: لم يعط «شرعية» لبقاء سلاح «حزب الله» من دون استفهام حول مآله، لكنه اعط له «تبريراً دائماً» طالما هناك صراعات اقليمية لم تحل. وفي وقت كانت تتزايد فيه المؤشرات بأنّ الموضوع المباشر الآن، من طرف الضغط السعودي، يتعلّق بارتداد عون عن الحدّ الأدنى من الحياد في الاستقطاب الإيراني العربيّ، اعتبر عون أنه يكفيه توصيف الوقائع، بأنّ هناك انقساما لبنانيا حول المسائل الاقليمية، وبأنّ هناك حجما اقليميا لإيران لا بد من التعامل معه بواقعة.
بالتوازي، مع الظهور التلفزيونيّ لرئيس الجمهورية في ذكرى انطلاقة «العهد» الأولى، أسفرت الحركة المكوكية المتسارعة لرئيس الحكومة سعد الحريري عن سفرتين للسعودية، الأولى استبقها بتشديد على الإنجازات التي حققتها حكومته، ورافقها ايحاء بأنّ فترة «التهدئة» ممدّدة في لبنان حتى الإنتخابات النيابية القادمة، والثانية استبقها لقاء مع علي أكبر ولايتي، وزير خارجية إيران أيام الإمام الخميني، ومستشار المرشد علي خامنئي حالياً للشؤون الدوليّة. إلى حد كبير، لعب كلام ولايتي أثراً في تسريع الأمور بإتجاه استقالة الحكومة الحالية.
ما هو، في الحالتين، مصير «الإنجازات» المحققة في ظلّ «التسوية» قبل انفراطها الدرامي هذا، هذه الانجازات التي وصفها عون في لقائه الإعلامي بالاستراتيجية، وتناولها الحريري بلغة الجمع، كما لو كانت عديدة، وكثيرة؟
كانت مثل هذه اللغة لا تزال تراهن أنّه يمكن المضي، من فترة «عراضة» حزب الله في الجرود والتلفزيونات، إلى فترة الانتخابات النيابية، على نحو انسيابي، تتعاظم فيه سيطرة الحزب، وتتزايد فيه التناقضات اكثر فأكثر بين أخصامه. أياً يكن من شيء اليوم، فقد زال هذا «الوهم الإنسيابي» تماماً، وهم أن الأمور لن تكون عرضة للحظات صادمة، وأحداث جسام، من الآن حتى الموعد المضروب للاستحقاق الانتخابي المرحّل منذ سنوات عديدة.
بيد أنّ «الوهم الانسيابي» الذي تبخّر بين ليلة وضحاها في الساعات الأخيرة، يفسح بالمجال لنشوب أوهام أخرى.
منها التوهم بأن كل ما يجري، منذ لحظة استقالة الحريري، هو دخول البلد في مرحلة «هرج ومرج انتخابية»، وان يكن بمؤثرات أفلام رعب هنا وأفلام حركة هناك، من دون أن يتجاوز هذا إطاراً محدّداً بالإستحقاق النيابي القادم. هذا وهم غارق في المحلّية، لا يستوعب إلى أي مدى تحوّل لبنان إلى ساحة تنازع إيرانية ـ سعودية، تبعاً لتشخيص كل من طهران والرياض أكثر فأكثر بأنّ، «حزب الله» هو العنصر الطليعي في تمكين الأولى، أو أنه العقبة الأكبر في اعتراض التعبئة ضد التوسع الإيراني عند الثانية.
لكن هناك التوهم في المقلب الآخر، بأنّ الأمور ماضية، لا محالة، نحو «حرب» جديدة. طبعاً، في بلد كلبنان، وحيال حالة كـ«حزب الله»، يمكن أن تنشب حرب من أنواع وأنماط مختلفة في أي وقت، لكن هذا شيء والبناء على أنّها صارت حتمية، بل أطلق عدّها التنازلي شيء آخر تماماً، والإسترسال في هكذا وهم هو أمر مكلّف. والأهم، «حزب الله» هو الطرف الذي يستثمر عادة في مثل هذا المناخ، «الانتظاري» لحرب تبقى «محتبسة» و«مؤجلة».
صحيح أنّ الفترة التي تفصلنا عن الاستحقاق النيابي العتيد لم تعد «راكدة» أو «انسيابية» (وهما في الحالة اللبنانية، على ما كان جارياً في الشهور الأخيرة، يترادفان)، وأقرب أن تكون إلى «محمومة» بل «عاصفة»، لكنها محمومة أكثر من مجرّد «هرج ومرج انتخابيين»، مثلما أن طابعها «العاصف» لا يتضمّن من تلقائه خطة طريق لحرب وشيكة.
فـ»حزب الله» الذي يزاول سياسة «قضم» الواقع السياسي والإجتماعي اللبناني تباعاً سيحاول متابعة الأمر في الفترة المقبلة، بالهمّة نفسها، بحكومة ومن دون حكومة، مستفيداً من مناخ إيراني ـ روسيّ مشترك بأنّ اللهجة الحربية الاسرائيلية الحالية ما زالت تقف عند حدود معيّنة، بل ثمّة مسايرة «إيرانية» لمقترحات روسية ـ اذربيجانية لنقل أفكار بين طهران وتل أبيب، وثمة اعتبار إيراني بأنّ نقل الأفكار هذا يمكنه أن يعوّض عن «شبكة أمان» كان نظام الملالي قد استهل نسجها حول نفسه وقت باراك اوباما بمعية الاتفاق النووي.
بقي أنّه ليس بالمستطاع في اللحظة الحالية تقدير إلى أين يمكن أن يصل أثر العقوبات المالية والتجارية والمقاطعة الملاحية للبنان إذا ما كان الإتجاه سعودياً وخليجياً للمضي بشكل منهجي على هذا الصعيد، خصوصاً في حالة اقتصاد هشّ كالاقتصاد اللبناني. هنا أيضاً، ثمّة وهمان. الأوّل بأنّ «حزب الله» غير متأثر بالعقوبات ضدّه، وهذا غير صحيح، خصوصاً مع النفق الذي دخل فيه الاتفاق النووي الإيراني، وبالتالي الانتظارات الإيرانية بأن يؤدي تدفق الأموال بنتيجته إلى المزيد من الراحة في سياساتها الاقليمية. والثاني، بأنّه يمكن رسم حدود تأثّر فاصلة بين «حزب الله» من جهة وبين الشيعة ككل من جهة ثانية، وبين الشيعة من جهة واللبنانيين ككل من جهة ثانية.. إذا ما ذهبت العقوبات المالية والعقوبات الاقتصادية في اتجاه تصاعدي سريع، لا أحد يمكنه الآن التكهن بنتائجها.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة