لا أجد ـ وأنا أستحضر»الثورات العربيّة» في بداياتها، في تونس ومصر واليمن وسوريا ـ أبلغ من عبارة أندريه مالرو في كتابه «الأمل» وهو يتحدّث عن ملحمة مدريد في الثلاثينات: «لقد عاش هؤلاء الناس، على الأقل يوما وفقا لقلوبهم». ولكنّنا عندما نرى اليوم هول الدمار، والتخلّف المروّع، وهذه الهوّة التي لا تُجسر بين شعوبنا وحكّامهم، نقول إنّ العالم العربي اليوم(أو العوالم العربيّة بعبارة أدق)، يكاد يكون صورة من ذلك البدوي الذي سهر في المدينة، ثمّ قرّر أن يقطع المسافة إلى قريته القريبة راجلا. ما أن قطع أكثر من نصف المسافة، حتّى رغب في إشعال سيجارة. أطبق على سيجارته بين شفتيه وأشعل عود الكبريت في تجويفة راحتيه؛ ولكنّ الرّيح نفخت فانطفأ. أعاد المحاولة مرّة ومرّة، وفي كلّ مرّة ينطفئ العود. بقي عود واحد لسيجارة واحدة. أدار ظهره للريح وقدح العود ثمّ جذب أنفاسا متوالية، فإذا السيجارة تتوهّج. وقف يعبّ أنفاسا أخرى، ثمّ واصل سيره، ناسيا في غمرة نشوته أن يعود فيستدير نحو قريته. لا أدري إن كنّا نقطع طريقنا إلى العشريّة الثانية من هذا القرن أم نحن نعود في عربة الزمن العجيبة إلى خرافات العصور الوسطى.
كلّ ما نراه، في هذا المنعرج التاريخي، ليس أكثر من تعارض بين السياسة والأخلاق، قائم في أكثر من مستوى؛ سواء عندنا أو عند «الآخر» الغرب. وهو على ما يبدو تعارض شائخ كاذب طال أكثر من اللازم؛ وإن كان له ما يسوّغه عند البعض. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين خاصّة؛ من التغيّرات والانقلابات في حقول العلم والمعرفة وفي الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، ما جعل الفجوة بين السلوك وأنساق القيم تتّسع، وتعبّر تعبيرا صريحا أو مضمرا عن شك عميق في فاعلية القيم المتوارثة وفي جدواها. وذلك بدءا بنهاية عصور الاستعمار القديم وثورة الزنوج، والطلبة والنساء على كل أشكال السطوة والتسلّط… فسقوط المعسكر الشرقي وحلول مرحلة جديدة من الإمبرياليّة أو الكولونياليّة كما يعرّبها البعض، وارتفاع الأصوات المنادية بالحرية والديمقراطية، وسيادة التفكير العلمي العقلاني، بالرغم من أنّ التفكير الغيبي لا يزال يحتفظ بقدر غير يسير من سطوته وفتنته؛ ناهيك عن التشدّد الديني الذي يتحوّل إلى إرهاب أعمى؛ بدعوى تحكيم النصّ الديني في حياة الناس. وهذا وغيره مما لا يتّسع المجال لذكره، إنّما يذكي الحاجة إلى قيام نسق من القيم الجديدة، حتى لا تكون «نهاية التاريخ» المزعومة نهاية الأخلاق، على نحو ما نرى في إفريقيا، وفي البلاد العربيّة، وانكشاف أكاذيب الغرب، بعد كلّ حرب عدوانيّة على الفلسطينيّين.
صحيح أنّ القيم لا تنشأ بفعل الإرادة الذاتية الواعية، وأنّه من السذاجة أن نأخذ بذلك التصوّر الذي كان يأخذ به القدامى؛ في اعتقادهم أنّ الناس على دين ملوكهم، فنتوهّم أنّ مشكلة مجتمعاتنا في سلوك الحاكم الأخلاقي، وليست في نوع الحكم القائم أي في التنظيم السياسي حيث يسري القانون على الجميع؛ من هرم السلطة إلى رجل الشارع. فالأخلاق مدمجة في العادات والأعراف والتقاليد. وهي كما يقول أهل الذكر، بمثابة «مستودع» تستمدّ منه السياسة أفكارها.
من ذلك أنّ العدالة والمساواة والحرية والاخاء كلها قيم أخلاقيّة، ولكن يفترض فيها، عندما تنتقل إلى السياسة، أن تتحوّل إلى قوانين ملزمة؛ عسى أن تكون مدينة الإنسان «عاصمة الأخلاق»، كما قال خوسي سراماغو عن مدريد «عاصمة أوروبا الأخلاقيّة»؛ خلال المظاهرات الحاشدة التي شهدتها اسبانيا بمناسبة الذكرى الأولى للحرب على العراق. وهي عبارة متوقّعة من كاتب مثل سراماغو له من صفاء الذهن وجلاء الرؤية؛ ما جعله ينظر إلى قضايا الحرية في وحدتها وشمولها، ودون أي اعتبار لفروق اللغة أو الدين أو العرق. وقد كان له دور في «ثورة القرنفل» البرتغالية، وانحاز إلى ثورة التحرير الجزائرية. ثم رأيناه مع محمود درويش وآخرين من حمَلة نوبل؛ يشارك في تظاهرة حاشدة بمدينة رام الله مساندة للقضية الفلسطينية. ويدلي بعد ذلك بتصريح وهو في فلسطين المحتلة أثار عليه سخط المؤسّسة الصهيونية وحنقها. وذلك عندما شبّه ضحايا الآلة العسكرية الإسرائيلية، من الفلسطينيين بضحايا الهولوكوست.
لم يكن بالمستغرب إذن أن يقول «سراماغو» عن مدريد ما قال، منذ أن اندلعت بها تلك المظاهرات المندّدة بالحرب على العراق، والمطالبة بعودة الجنود الإسبان الذين زجّت بهم حكومة أزنار في حرب؛ تبيّن أنْ لا هدف لها إلاّ استنزاف موارد العراق الطبيعيّة والحضاريّة، والدفع باتجاه تقسيمه. ومع أنّ مدريد كانت ضحية إرهاب أعمى، فإنّ الإسبان لم يتخلّوا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين ولا مع العراقيّين أو السوريّين في محنتهم، ولم يتحوّل مثقفوهم إلى «جِراء صغيرة»على نحو ما رأينا في بعض البلاد العربية؛ خلال العدوان على غزّة؛ حيث كانت هذه الجِرَاء تسعى في جلبة خلف فتات الحكّام، أو هي تلعق البقايا؛ ثمّ تمشي وهي تشيل أذنابها، أو تعوي عواء القطط الحائلة.
كم نحن في حاجة إلى الأخلاق لا باعتبارها قيما انسانيّة تدور مدار الحرية والمراهنة على السعادة فحسب، وإنّما من جهة كونها آدابَ سلوكٍ أيضا.
ناقد تونسي
منصف الوهايبي