باريس ـ «القدس العربي» من سليم البيك: هو أوّل الأفلام الملوّنة للمخرج البولندي، له أجواؤه الخاصة، لندن أواخر الستينيات (السوينغينغ)، الجنس كموضوع شخصي واجتماعي، الحريّات كما تمثلها سوزي، والكبت الخجول كما يمثله مايك، والألوان كمرافق بصري لهذه الحيوية في المشاعر والأفكار كما يقدّمها الفيلم.
مايك (جون مولدر- براون) 15 عاماً، لا تجربة جنسية لديه، يخرج من المدرسة ويبدأ العمل في مسبح وحمّام عمومي. يلتقي بسوزان، أو سوزي (جين آشر) التي تعلّمه حال وصوله ما عليه فعله، هو مسؤول عن قسم الرجال وهي النساء، وظيفتهما هي الاهتمام بالزبائن، وقد يتخلل ذلك، بالخفاء، خدمات جنسية، إذ تبدأ النساء بالتحرش به، وهو بملامحه الطفولية، وكذلك بسلوكه وكلامه، يقاومهن، في وقت تعرف سوزان كيف تربح من هذه الخدمات.
في أحد مشاهد الفيلم المميزة، يجد نفسه في غرفة مومس، تعلّق حين تعرف أنه يعمل في حمام عمومي ويكسب بقشيشاً عالياً، بأنّه لا بد أن يكون مثلياً.
يقع مايك في حبّ سوزي، التي تكبره بأعوام قليلة، والتي تلعب بمشاعره كما تفعل مع آخرين، كخطيبها وكذلك عشيقها، وكان محفزها الأساسي في سلوكها مع كل منهم هو نرجسيتها وإدراكها لمكامن الجاذبية الجنسية لديها، وتعلُّق كلٍ منهم بها، ما ملأ الفيلم بأحاسيس عبثية تراوحت بينها وبين مايك، الذي بدوره لم تكن مشاعره الكثيفة فجأة تجاهها، مستقرة، إنّما عبّر عن رغبة جنسية متزايدة تجاهها كلّما فهم أكثر أنّها تلاعبه وغير معنية بعلاقة معه.
من خلال هذه العلاقة المتأزمة والقلقة، بين الطرفين، كان المسبح الممتلئ بالمياه تارة والفارغ تارة أخرى، ساحة لبداية العلاقة بينهما ونهايتها، مراوحاً بين الحب والموت، بين اللعب والجنس. الفيلم، من خلال كل من مايك وسوزي، يقدّم حالتين سيكولوجيّتين متناقضتين، هي بشخصيتها وحياتها الأشبه بالمسبح ممتلئاً، وهو الأشبه به فارغاً، والمشهد الأخير منه، حيث تبدأ مياه المسبح بالضّخ إليه، وقد أمضيا الليلة فيه فارغاً، يلتقي التناقضان ليؤدي الالتقاء إلى نفي أحدهما للآخر، وهو هنا القتل، وإن بالخطأ.
بمعزل عن الحالتين السيكولوجيتين هاتين، وبمعزل عن أجواء لندن الستينيات (والفيلم بذلك يذكّرنا بفيلم «بلوْ أب» (1966) للإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، والفيلمان عن لندن لمخرجين ليسا بريطانيين)، فالفيلم بديع من الناحية البصرية، استخدام الألوان من ناحية، والإطار/اللقطة الثابتة من ناحية أخرى، وهذه وتلك تذكّر كذلك بأفلام أنطونيوني، التي بدأ بها التصوير بالألوان.
ولسكوليموفسكي هنا هوية لونيّة واضحة، تراوحت بين الأصفر والأحمر والبرتقالي، كألوان حارة أقرب إلى شخصية سوزي، الصهباء الفاتنة مجنونة المشاعر والسلوك. للألوان رمزية واضحة، الأحمر منها تحديداً بترميزه هنا للدم، بدأ الفيلم به وانتهى به، متخللاً إياه في لقطات عدّة، كتلك التي يدهن فيها عامل الجدار الأخضر بالأحمر القاني، هذا الأحمر وهذا الدّهان سيقع في مياه المسبح أخيراً ويختلط بالدماء. كما يبدو من جدران مبنى المسبح، أنّه كلّه يخضع لعمليات دهان كاملة، من ألوان هادئة كالأخضر والأزرق والأبيض إلى تلك الصاخبة، كالأحمر والبرتقالي والأصفر، كأنّها تدهن شخصية مايك النقية الساذجة، الذي انتهى به الحال، مع سوزي وجنونها، إلى سلوك منسجم مع هذا الجنون سيروح ضحيته الاثنان.
إضافة إلى الاستخدام المبهر للألوان، فالسينماتوغرافيا في الفيلم كانت بديعة، هنالك لقطات كاملة وعديدة، تناسب معرضاً فوتوغرافياً، هنالك تداخل بين الواقع والفانتازيا، نجد أنفسنا للحظة في العوالم الداخلية لفتى مراهق تجنّنه زميلته اللعوب بإيحاءاتها الجنسية، وحتى بتصريحاتها، إذ قالت له حين عرفت بأنه لم يمارس الجنس يوماً، بأن يبقى في المسبح مساءً حين يغلق أبوابه وينتظرها، لتخبره لاحقاً بأنّها ستخرج مع خطيبها، وتتركه معلّقاً بها يلاحقها مهووساً باللحظة التي وعدته بها.
المسبح بمائه وألوان جدرانه كان ساحة للرغبات الجنسية وكبتها واللعب بها، في زمان ومكان كانت الحريات الجنسية إحدى العلامات، وكان المسبح مساحة لدواخل الشخصيتين الرئيسيتين، بتفاعلهما مع بعضهما ومع الآخرين، لكن أساساً مع بعضهما للتجاذب/التنافر بينهما، إلى أن وصل هذا التفاعل لحظاته الأخيرة، بأسلوب عبثي، فأخطاء صغيرة تلاحقت كمسببات ونتائج إلى أن وجدا نفسيهما، مايك وسوزي، في المسبح. لحاقٌ تبعه سوء فهم تبعه لحاق، إذ يثقب مايك إطار سيارة عشيقها، تراه، تلاحقه، تضربه بقبضتها، تسقط قطعة ماس من خاتم قدّمه لها خطيبها، يبحثان عنها، يلمّان الثلج في أكياس وقد ضاعت فيه، يذهبان إلى المسبح. وحدهما هناك، يبدآن، في الحوض الفارغ، بإذابة الثلج والبحث عن القطعة، يجدها هو، تقبل بأن تمارس الجنس معه، يتشاجران مجدداً، يبدأ الماء بالضخ إلى الحوض، لينتهي الفيلم بمأساة لا يمكن توقّع كيفية حدوثها.
الفيلم (Deep End) من إنتاج بريطاني/ألماني – غربي، عام 1970. عُرض أخيراً في سينماتيك تولوز ضمن برنامج استعادي للمخرج البولندي جيرزي سكوليموفسكي لمناسبة خروج فيلمه الأخير الرائع «11 دقيقة» إلى الصالات.