نوبات من القلق المتواصلة

حجم الخط
1

خلود العدولي: علّمنا آباؤنا ذلك المثل الشهير الذي يقول: «يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان» ونشأنا على إثر ذلك المثل نقيس قيمتنا وكرامتنا بما نحصده من أعداد ونتائج. يوم الامتحان هذا، ليس يوما عاديا. هو اليوم الذي أحسّ فيه بأن حياتي بأكملها على المحك وبأنّ عليّ أن أستجيب لكل ما ينتظره الناس مني. أن أكون الأفضل، أن أقدّم شيئا مبدعاً، وأن أبيّن أنني استوعبت الدروس بشكل ممتاز.
كل هذا يسبّب لي ضغطا نفسيا لا يطاق، أحسّ معه بأنّ فترة الامتحانات خانقة حقّا وبمرور السنوات أصبحت هذه الفترة فترة فزع ونوبات من القلق المتواصلة.
إنّ الدراسة امتلاك لمهارات جديدة وتمّكن من توظيف هذه المعارف والمهارات ولكننا ننسى في معظم الأوقات أنها كذلك فضاء لاكتشاف قدرات الذات. إنّنا بالأحرى لا ننسى ذلك ولكن الامتحانات التي تطرحها علينا الجامعة أو المدرسة ليست تخاطب ذواتنا، وإن كانت تبدو كذلك.
الامتحان ليس ذلك الموضوع الذي يقدّم إليك يوم الاختبار، هو عملية أعقد من ذلك بكثير. هو جملة تلك الأسئلة التي لم يستطع الدرس بعد الإجابة عنها بشكل واضح، المرّات التي لم تستطع فيها حضور الدرس، علاقاتك مع الأساتذة، ما يحبذّه المصحّح وما يكرهه.
إنّ الامتحان أمامك، وأنت كشاب ومواطن لديك من الأفكار والتجارب ما يملأ عشرات الصفحات لكنك تقف متردّدا، خائفا من أن تلقي بذاتك داخل الامتحان لأنه طريق مختوم بألف قاعدة ولأنك طبقا لذلك المثل الذي ذكرناه تخشى فعلا أن تهان. لم تفّكر الجامعة إلى حدّ الآن في دولنا العربية في مفهوم الامتحان. لقد آن لنا أن نجعله مواكبا للعصر ولقدر التجربة التي يتمتع بها الشباب في العشرينيات من عمرهم. لقد دأبنا منذ الصغر على تلك الامتحانات التي تقيس مدى حفظنا للمعلومات ومدى نظامنا في سردها أو في توظيفها فحسب ولم نستطع أن نجعل من الامتحان كذلك فرصة للذهاب بعيدا. أن نذهب بعيدا، يعني أن نوظّف المهارات التي تعلمناها وأن نترك بصمتنا الخاصّة، جزءا من حياتنا ومعرفتنا الشخصية وأسئلتنا التي تشتّد في سنّ الشباب.
الامتحان ليس إجابة، إنه ليس تقديما لحلّ منتظر منّا بل هو تلك الفرصة التي تتيحها لنا الجامعة لنتساءل عن عصرنا ومشاغلنا وحال بلدنا ومجتمعنا. هو فضاء لطرح كل تلك الإحراجات التي نعيشها وكل تلك المواقف التي تعلّمنا منها وكل تلك الأفكار التي نريد بها تغيير العالم. إنّ العالم لا يتقدّم إلاّ عن طريق الإبداع، والإبداع ينطلق من تلك القدرة على تصوّر أشياء أو نماذج أو مناهج لا توجد بعد أو في مواصلة جديدة لما يوجد في الواقع. إنّ كل إبداع يستوجب خروجا عن القواعد أو تجديدا لها وهذا ما نطمح إليه في امتحان حقّا. إنّ تعليمنا بحاجة لثورة حقيقية، ثورة ضدّ تعليم «النتائج» ونحو تعليم مبدع. لا يمكن أن نغير من حالنا إن لم يصبح الامتحان كشفا للفرادة التي يتمتّع بها الشّاب في سنّ لازلنا نحلم فيها رغم صعوبة الظروف وهذا الامتحان لا يمكن أن يصدر إلاّ عن تعليم يهتّم بذوات الأفراد وينطلق منها.
التعليم الذي يكشف عن ذوات الأفراد هو ذلك التعليم الذي لا يقيس الطلاّب بنتائجهم فحسب ويمنحهم فضاءات تمّكنهم من اكتشاف تميّزهم، إنه تعليم يؤمن بأنّ الإنسان يمتلك جملة من القدرات والمواهب ويسعى بذلك للكشف عنها وتطويرها. يعيش كل شباب الوطن العربي فترة الامتحانات على أنها فترة رعب وفزع وتمتلئ شاشات الفيسبوك بتلك الصور الساخرة عن فترة المراجعة ما بين هؤلاء الذين يصبحون مصليّن يقومون الليل ويصومون النهار. فترة لا نكتشف حقيقتها إلا بعد أن تنتهي. سرعان ما تتبّخر تلك المعلومات لأنّ الذعر الذي يسبّبه الامتحان يجعل من المعارف أشياء لها مدّة صلاحية، أشياء مؤقتة لا يمكن أن تجد مكانها في الذاكرة العميقة. إنّ الامتحان الحقيقي هو الذي ننتظر لقاءه بشوق راغبين في الكشف عن قدراتنا وأفكارنا الخلاّقة، علينا أن نفكّر في مفهوم جديد للامتحان يكون بعيدا كلّ البعد عن مشاعر الخوف والرهبة وممتلئا بمشاعر الشوق والثقة. علينا أن نتصالح مع الخطأ ومع الفشل وأن نعتبرهم مناهج نتعلّم منها ونتطوّر من خلالها.

نوبات من القلق المتواصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إحسان ماجدي تونس:

    مقال شائق يشرح ماوصلت اليه انظمتنا التعليمية من تدهور في بناء القيمة وهو ما انتج للاسف هذا القلق المتعدد الاوجه.
    سلمت يداك صديقتي خلود

إشترك في قائمتنا البريدية