بعد سولي برودوم (1901)، وفردريك ميسترال (1904)، ورومان رولان (1915)، وأناتول فرانس (1921)، وهنري برغسون (1927)، وروجيه مارتان دوغار (1937)، وأندريه جيد (1947)، وفرنسوا مورياك (1952)، وألبير كامو (1957)، وسان جون بيرس (1960)، وجان ـ بول سارتر (1964)، وكلود سيمون (1985)، وجاو كسينغجيان، الصيني الأصل (2000)، وجان ـ ماري غوستاف لوكليزيو (2008)؛ ها هو الروائي باتريك موديانو يصبح الكاتب الفرنسي الخامس عشر الذي يفوز بجائزة نوبل للآداب، منذ تأسيسها.
فوزه بدا مفاجأة للكثيرين، ليس لأنه مغمور نسبياً على الصعيد العالمي، فحسب؛ بل كذلك لأنّ لائحة المراهنات على الفائز بجائزة هذه السنة ضمت منافسين ذائعي الصيت، و»مزمني» حضور على لائحة نوبل، من أمثال الأمريكي فيليب روث، والياباني هاروكي موراكامي، والتشيكي ميلان كونديرا، والكيني نغوجي واثيونغو. ورغم ذلك فإنّ موديانو يستحقّ الفوز، وبالمقارنة مع منافسيه هؤلاء أيضاً، بل لعله يتفوّق شخصياً بسلسلة سمات طبعت موضوعاته الروائية، كما ميّزت أسلوبيته العامة، في تقنيات السرد واستحضار التاريخ وتوظيف اللغة.
وقد تكون العبارة المفتاحية لفهم أدب موديانو هي تلك التي وردت في روايته «دفتر العائلة»، 1977: «كنتُ في العشرين من عمري فقط، ولكن ذاكرتي سبقت ولادتي. كنت واثقاً، مثلاً، أنني عشت في باريس زمن الاحتلال لأنني أتذكر بعض شخصيات تلك الحقبة وتفاصيل دقيقة ومقلقة عن أولئك الذين لم يأت أي كتاب تاريخ على ذكرهم». ومنذ العمل الأول، «ساحة النجمة»، 1968، وكان موديانو في الثالثة والعشرين من عمره، هيمن هذا المحور على مجمل المسارات التي اتخذتها الأعمال اللاحقة، وما يزال مهيمناً حتى اليوم في الواقع، كما يشهد بذلك عمله الأحدث عهداً «لكي لا تضيع في الحيّ»، 2014.
عبارة أخرى، في المضمار ذاته، استقاها موديانو من رينيه شار، شاعر المقاومة الفرنسية ضدّ الاحتلال النازي، تقول: «أن تعيش، يعني أن تمتنع عن استكمال ذكرى ما»؛ سواء تلك الذكريات المشحونة، والقلقة المضطربة، التي شابت علاقة موديانو بأبيه، المتواري عن الأنظار لأنه متهم بالتعاون مع الاحتلال النازي ضدّ أبناء جلدته من يهود فرنسا؛ أو الصلة بالأمّ، بصدد إشكاليات مماثلة تقاطعت مع تلك العلاقة مع الأب؛ أو البحث عن هوية ما، أوسع نطاقاً بكثير من أيّ انتماء جغرافي أو قومي أو ديني، من باطن ذلك التجوال العميق في أحياء باريس وأزقتها وشرائحها الإنسانية. هو «بحثي الدائم عن شيء ما، ضائع، والتفتيش عن ماضٍ غائم ليس في الوسع إضاءته، وطفولة كُسرت بغتة… كل هذا يسهم في التوتر العصبي الذي باتت عليه حالتي النفسية»، يقول موديانو في حوار مع مجلة «ماغازين ليتيرير»، ضمن ملفّ خاصّ بأدبه صدر في أيار (مايو) 1990.
وضمن الدراسات النقدية المعاصرة، التي تناولت مسائل الذاكرة في الآداب والفنون، قفز مصطلح «ما بعد الذاكرة»، الذي أطلقته الناقدة والاكاديمية الأمريكية ماريان هيرش في كتابها «أطُر العائلة: سردية التصوير الفوتوغرافي وما بعد الذاكرة»، 1997، واستكملته لاحقاً في كتابها الثاني «جيل ما بعد الذاكرة: الكتابة والثقافة البصرية بعد الهولوكوست»، 2012. صحيح أنّ الخلفيات الطاغية على أبحاث كهذه تبدأ غالباً، وحصرياً أحياناً، من معضلات كتابة التاريخ العامّ، والتواريخ الفردية، في أطوار «ما بعد الهولوكوست»؛ إلا أنّ مقترحات نقدية تطبيقية مثل هذه تلائم كثيراً دراسة تلك الآداب والفنون التي اقترنت باالذاكرة اليهودية، ومنها رواية موديانو بالطبع، حتى إذا كانت كوابيس التاريخ الهولوكوستي ليست ضمن ملفاتها التكوينية.
ولعلّ تشديد الأكاديمية السويدية على بُعد الذاكرة في تقريظ أدب موديانو، واعتباره الحيثية الأبرز التي رجحت فوزه بجائزة هذا العام، يعيد طرح أسئلة قديمة لا تكفّ عن تجديد مسوغاتها في كلّ عصر، حول وجود إشكالية «تنازعية» بين التاريخ والأدب؛ أو، على العكس، وجود رابطة، وربما سلسلة روابط، بين النصّ الأدبي والنصّ التاريخي. فإذا صحّ أنّ النصوص الأدبية ليست بِنْت زمن محدد، لأنها عابرة للتاريخ، والسياق التاريخي لإنتاجها واستقبالها ليس له تأثير على «أدبية» العمل الأدبي، المستقلّ ذاتياً من الناحية الجمالية… فما الذي تضيفه أعمال موديانو إلى تاريخ الاحتلال النازي لفرنسا، وباريس خصيصاً، إذا كان مؤلفها لم يشهد تلك الفترة، لأنه لم يكن قد ولد بعد؛ وإذا كان لا يزعم كتابة رواية تاريخية، بالمعنى التقليدي والتوثيقي للمصطلح؛ ولا يزعم أيضاً ـ أو ليس رسمياً، على الأقلّ ـ أنّ رواياته سيرة ذاتية، أو تكاد؟
أسئلة أخرى تنبثق من مسلمة ثانية، تخصّ العلاقة بين الأدب والتاريخ، مفادها أنّ السياق التاريخي للعمل الأدبي، أي الظروف التي اكتنفت إنجازه، على صعيد شخصي أو عام، عامل تكويني ضروري لفهم العمل الأدبي؛ لأنّ النصّ يُنتج ضمن سياق تاريخي محدّد، حتى إذا تمتعت أدبيته بهذه أو تلك من مستويات الانفصال عن السياق التاريخي. وهكذا، وربما اتكاءً على هذه المسلمة تحديداً، تتفق جمهرة من دارسي موديانو على أنّ رواياته الثلاث الأولى ـ «ساحة النجمة»، 1968؛ و»دائرة الليل»، 1969؛ و»جادّات الحزام»، 1972 ـ هي ثلاثية متكاملة حول الاحتلال (على غرار تصنيف ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً)، من جهة أولى؛ وثلاثية عائلية، تطغى عليها تفاصيل الحال الملتبسة لعلاقة موديانو بأبيه وأمّه، من جهة ثانية.
الروايات الثماني التالية، بين «شارع الحوانيت المعتمة»، 1978، التي جلبت له جائزة غونكور الفرنسية الرفيعة، و»أزهار الخراب»، 1991؛ تنأى عن موضوعات الثلاثية، إلى حدّ كبير، وتركز في المقابل على سرد حكايات فردية حول شخوص باريسية أساساً، لكنها لا تتجمع وتتضافر لكي تشكل مشهد هويات متقابلة أو متضاربة أو متكاملة، فقط؛ بل تنسج من هذا الاحتشاد شبكة ذاكرة جَمْعية عريضة، زاخرة وغنية ومركبة، أيضاً. وهنا ميدان مسلّمة ثالثة، حول علاقة الأدب بالتاريخ: أنّ الأعمال الأدبية يمكن، بل وينبغي، أن تساعدنا في فهم الزمن الذي تصفه، سواء لجهة المجتمع عموماً، أو في ما يتصل بتيارات وأساليب الأدب في العصر المَعْني خصوصاً.
وتبقى، بالطبع، تلك المسلّمة الرابعة التي ترى أنّ النصوص الأدبية مرتبطة بخطابات وبُنى بلاغية أخرى، وهي جزء من تاريخ ما يزال في طور الكتابة. وبذلك فإنّ أفضل السبل لاستقراء التاريخ في أعمال موديانو (خلال التسعينيات مثلاً، مع «رحلة الزفاف»، 1990؛ و«كلب الربيع»، 1993؛ و»دورا برودر»، 1997… حيث تعود موضوعات الاحتلال)؛ هي الانطلاق من أنّ العلاقة الأمثل لا تقوم على تناظر الأدب والتاريخ، بل على انبثاق الأدب في قلب التاريخ.
تجدر الإشارة، أخيراً، إلى أنّ موديانو ـ على نقيض غالبية الفائزين بنوبل الآداب في السنوات الأخيرة، ممّن شكلوا «مفاجأة» للقارىء العربي ـ ليس غريباً عن اللغة العربية، وله أربعة أعمال مترجمة: مجهولات»، بترجمة رنا حايك، 2006؛ و«مقهى الشباب الضائع»، بترجمة محمد المزديوي، 2009؛ و«شارع الحوانيت المعتمة»، بترجمة محمد عبد المنعم جلال، العام ذاته؛ و»الأفق، بترجمة توفيق سخان، 2014.
للأسف لدينا وامثالنا من الأفكار اكثر من ذلك بكثير..لكن أحدا ما لم يبحث عنها..فبقي النت هو الحاضن الرئيسي فقط..فمن يسلط الضوء على هؤلاء؟.مع التحية والتقدير دوما.