حسنًا فعلْنا يومَها!
كانت منازلُ نابلٍ.. تلك الظهيرةَ قشرةَ الليمون.. كان البحرُ مدبغةَ الجلودِ.. الشمس كانت فظّةً.. فضيّةً.. واللحمُ أخضرَ.. كان.. يسخنُ في بريق الجلدِ.. تحت حجابِها القطنيِّ.. حيثُ الأزرقُ الحجرُ الكريمُ.. بلونهِ متغيّرًا أبدا.. كريشِ الموجِ..
كنّا قد هبطنا بغتة.. قططٌ.. أرانبُ..
إذ ينظّفنَ الفراءَ بملحهِ.. ويَمئنَ للغرباء.. أو يَضغَبْنَ..
فوق رمالهِ..
وأنا كأنّي كنتُ في نومي أسيرُ.. الوقتُ فينا جثّةً منفوخةً..
متكلّمًا وحدي إلى لا شيءَ.. أو متشمّمًا كالكلب رائحةً.. هنا يبستْ..
وأنتِ ..الجينزُ المفتوقُ..والنظارةُ الشمسيّةُ السوداءُ..
-Dolce far niente !
نِمْتَ! تعالَ..نقّعْ وجهكَ الملفوحَ!
ـ قولي..تعرفين نيابوليس؟
نسيتُ أنا الكثيرَ.. وكلّهُ للريح.. إغريقٌ.. ورومانٌ.. وأسلافٌ لنا كانت لهم
كرةُ الملاحة.. في الطريق إلى صقلّيةٍ.. لتسميةِ النجومِ.. نْيابوليسُ مدينة التجّار جاؤوا من أثينا.. مصرفُ الإغريقِ..أو هي نابولي.. نابلس.. والأسماءُ لا الأشياءُ تحفظ وشمَها.
وجنودُ روما واقفونَ إلى الرماح.. زنابقًا مائيّةً.. في الشمسِ..
بنّاؤونَ أمواتٌ.. وكان المدّ مدَّهُمُ.. وكان الجزرُ جزرَهُمُ..
وكانوا كلّهمْ أسيادَ بحرِ الرومِ.. هذا الأزرقُ الفضّيُّ.. هذا الأخضرُ الفضّيُّ..
صارَ اليوم مبولةً من الفخّار.. نقشًا نابليّا.. في فنادقِها.. قُرًى مسلوقةً..
حيثُ الطبيعةَ لا تحبُّ سوى الفراغ.. سوى الخواءِ.. قرى به.. للصيد أو للصيفِ.. تنبتُ هكذا كالفطْرِ..
ثمّ وميضُ فوسفورٍ.. كأنّ الريحَ في كيسٍ..
حصانٌ واهنٌ كالموتِ.. منتظرٌ.. هواءٌ حامضٌ..
والحلمُ نفسُ الحلمِ يوقظنا.. كأنّ البحرَ مسقوفٌ.. ونحن معًا
La cidarem la mano –
يدا بيدٍ..
ـ أحبّ.. ولا أحبّ.. وبيتكَ الصيفيّ أين؟ أريدُ.. لكن لا أحبُّ.. سواكَ.. هذا البحرُ.. زيتٌ باردٌ أمْ ماءُ زهرٍ؟ والقرى مثلُ الجرارِ تدورُ بي!
٭ ٭ ٭
في الضفّة الأخرى أرى الدنيا أمامي..
موتنا البحريّ يسْحَبُنا بِأيدٍ من ضباب..ليس غير جماجمٍ حجريّةٍ كانت تطلّ من الصخور.. وغير سَوداءِ الطحالبِ.. إذْ تلوّحُ لي بأذرع عشبةٍ..
وبزرقةٍ من ملحِها.. وبياضِها..
٭ ٭ ٭
ومن العظامِ.. عظامِ غرْقى هاربين إلى شمالِ الضفّةِ الأولى.. هُمُ صنعوا لنا هذي التراتيل.. البيانو.. الأرغنَ اليدويَّ.. موسيقى الشوارعِ.. كنت أتلوها..
ونحنُ نغوصُ تحت القاع.. كنتُ أرى كواكبَ حلم يوسفَ.. حيث كان البحرُ حيطانَ الصدى.. صوتي يدور بها.. ولكن لا يعودُ..
كأنّنا نصغي لحوريّاته يَقرَعْنَ ناقوسًا لنا..
شبحٌ ينادي بي أنا.. من قمّةِ الأجرافِ..
صوتُ أبي: انتظرْ حتى يجيء النهرُ.. بعضُ ندوبِ وجهِ الأرضِ.. ثلْمةُ صحنِها!
٭ ٭ ٭
عرباتهمْ! طَقمُ الخيولِ! معادنُ الرومانِ فيها إذْ ترنُّ!
سفينةٌ ميّالةٌ.. نوتيّها النسّاف.. لي: لا تلتفت أبدا!
ولكنّي التفتُّ.. وذا حصانٌ.. كان يتبعني.. حوافرهُ تطقطقُ في غرانيتِ البلاطِ..
أكان هذا موتَنا..وهو الأرقّ.. هو الرؤومُ.. أكان هذا موتَنا؟
أيقونة الأسماك صرنا في كنائس لمبدوزا.. في فيرونا.. في ميلانو.. في بلارمو..
منتنوفا… «الأمّ واقفةٌ» لنا..
٭ ٭ ٭
ولكنْ في بيوت المومساتِ.. مَراوحَ الأسماك.. بِي بَلمٌ وسردينٌ.. واسفنجٌ ومَرجانٌ.. وبي ضحكُ الكؤوسِ.. بقشرةِ الليمون
٭ ٭ ٭
من مرقد الموتى
نُطلّ على سواحل لنذبوشةَ.. هكذا.. بوجوه أسماكٍ.. نُطلّ بأعينٍ صدفيّةٍ..
نحن القيامةَ والحياةَ.. تغوصُ بي قدمٌ..هنالك.. في تجاويف الرمال.. بعيدةً..
هل كان هذا البحر لعبتنا؟
أكنّا نحن لعبتهُ؟
يُحوّمُ زمّجٌ متموّجًا ما بين حيطانِ الرصيفِ.. ونحن في الميناءِ..
بابٌ سوف يُغلقُ ثمّ يفتح.. ثمّ يُغلقُ..
ذاك بيتٌ كالمسلّةِ.. كيف ندخلهُ؟ (وأين تركتِ لي مفتاحَهُ؟ ـ مفتاحُهُ أجسادُنا العمياءُ!) نحنُ ندورُ منتظرينَ في بابٍ زجاجيٍّ يدورُ بنا.. همودَ الليلِ..
ثمّ ندى على «شطِّ الأرانبِ» كان يهبطُ.. أو ندى منهُ يضيءُ.. الأزرقُ الصوفيّ ينسلُ ريشهُ..
حتّى إذا انثنتِ الزوارقُ.. وهي تسحبُ رغوة الليمونِ.. نحو الضفّة الأولى.. التفتُّ.. كأنّني تمثالُ ملحٍ واقفٌ في ملتقى الأمواهِ (دلْتا الضفّتيْنِ).. وقلتُ سوفَ أكونُ آخرَ زهرةٍ في برتقالِ نيابوليس!
٭ ٭ ٭
لو أنّ لي بيتًا هنا! أشجارَ ليمون مفضّضةً!
ومَقْشرَةً لأسماكِ مشجّرةً بزخّاتٍ من الأزهار! ثلْمةَ صحنها الخزفيِّ!
(أعني النهرَ)
بيتًا! ولْيكنْ وسطَ الحديقة دونما اسْمي (ولْيكنْ بسقيفةٍ مفتوحةٍ لكِ) غير أنّ الصيف يمطرُ في شتاء نيابوليسَ (أنا كبرتُ.. وليس لي حطبٌ ليزكوَ في رطوبتِها الزجاجِ) البحر يقفرُ.. والصبيّة عطرها متوحّشٌ.. واللحمُ أخضرُ.. زيتُ زهرِ البرتقالِ.. ولي أنا شفتان منها هشّتان.. رحيقُ آلهةٍ.. نباتٌ قرمزيٌّ..
غيرَ أنّ الأفقَ أجْربُ.. في شتاءِ نيابوليس!
٭ أديب تونسي
منصف الوهايبي
شعر جميل وعميق يا استاذ منصف يا ابن مدينة الفخار المطلي بزرقة تونس الفيروزية، وبرونزي الجلد المشوي بشمسها
كم هي جميلة نابل بفلفلها الاحمر، بحقولها وشطوطها، تونس في قلوبنا
أقرأ القصيدة في صمت فأشعر برغبة جامحة تدفع صوتي للطلوع
أعدل جلستي وأقرأ النص كاملا بصوت مرتفع
أقرأ نصا معجونا بالشعر ومخبوزا به وأنشد مرة ثانية بصوت أكثر موسيقى
عجيب هذا النص فيه عقيق متناثر في اتجاهات شتى لم أستطع إدراكها كلها لكني في القراءة الثالثة تمكنت من ربط بعضه في عِقد ولبسته زهر برتقال على عنقي
نص ماء زهر علاج مقطّر في زمن معطوب
شكرا سي منصف على هذا التفرد المذهل في كتابة الشعر
أقسم بالله يادكتورمنصف ؛ بعدما تأخّرمقالك الأسبوعي قليلاً…قلت مع خاطري ( الوهايبي سيطلّ علينا بقصيدة شعر).فكانت هذه.إنها عقيلة درّ..لا فقط قصيدة من شاعرحرّ؛ ياأبازينب.وعجيب لم تنل ( جائزة الكتاب ) وأنت لها أهل وبها جدير.قراءتها في جوف الليل ؛ حيث صفاء
السكون ؛ ووقفت عند عنوانها المثير:( نيابوليس[نابل]/ لنذبوشة[لمبدوزا] إلى سيموني سيبيلو) أخالك كنت في انتفاضة قلم واحتجاج…هكذا كان
أبوحيان التوحيدي ؛ قلمه سيف كالحجّاج ؛ وهل القلم إلا البتارللنفس ؛ إنْ لم يقطع شجرالبشر؟ سبق وعلقت ؛ والتعليق ( رأي عام ) أنك في القصائد صولجان ملكيّ ؛ وفي النثر( ربيع عربيّ ) فاخترللثورة ميقاتها القيرواني : قدر.