فريدريك نيتشه مالئ الدنيا وشاغل الناس في كل العصور لا يمل عشاق «بومة منيرفا» من الكتابة عنه والإقامة الرمزية بين شذراته واستعاراته الفاتنة، يعود في كل مرة ليطل علينا بمطرقته التي لا ترحم القلاع الهشة والأسوار البالية. ونحن اليوم ربما في حاجة ماسة أكثر لاستضافة هذا الجرماني المشاغب والاستعانة بقراءاته لفهم الزمن العربي الحاضر الذي يشبه تلك التراجيديات الإغريقية التي كان نيتشه مولعا بقراءتها وتحليلها مع تلاميذه في الصف. كتب نيتشه العديد من المؤلفات ونشر العديد منها قبل مرضه:
«فجر» (1881 )/ «العلم المرح» (1882)/»هكذا تكلم زرادشت» (1883 -1886) «جينيالوجيا الأخلاق» (1887 ) «هو ذا الإنسان»(1888) «إرادة القوة» (1906 أي بعد وفاته)، لكن يعد كتاب «ميلاد التراجيديا» بمثابة المنبع الذي ستخرج منه كل فلسفة نيتشه المعادية لأسس الفكر الفلسفي، وهو عبارة عن دراسة جديدة للتراجيديين اليونان الأقدمين أشهرهم سوفوكليس وأصغرهم يوريبيديس الذي توفي قبل سقراط بسبع سنوات.
لقد اعتاد مؤرخو الفلسفة تقسيم حياة نيتشه إلى ثلاث مراحل:
*- المرحلة الأولى: وهي المرحلة الرومانسية، ودامت سبع سنوات من 1869 إلى 1876، اشتغل فيها أستاذا لفقه اللغة في جامعة بازل في سويسرا، حيث اكتشف الموسيقار الكبير ريتشارد فاغنر وأعجب بموسيقاه خاصة أوبراه الشهيرة: إيزولد وتريستان. في هذه المرحلة أصدر كتابه الأول: «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى» سنة 1872، حيث كان شغوفا بالثقافة اليونانية، خاصة المسرح في جانبه التراجيدي إلى درجة أنه اعتبر أن الحياة هي عبارة عن مأساة كبرى مقابل الأخلاق التي هي امتداد للكوميديا الإغريقية التي كانت سببا في تفقير الإنسان وتحطيمه، لذلك اعتبرها أتفه ما أنتجته الثقافة اليونانية. نموذج التراجيديا عنده هو سوفوكل البطل الذي لا يساوم ولا يهادن ولا يقبل الحلول الوسطى، البطل التراجيدي يواجه الآلهة ويتحدى إرادتها من أجل إثبات إرادته هو رغم أنه يعرف بأنه ذاهب إلى حتفه.
– المرحلة الثانية: وقد امتدت خمس سنوات من 1877 إلى 1882، في هذه المرحلة ازدادت متاعبه الصحية خاصة ضعف البصر، وتعرض لنوبات عصبية شديدة، ما أدى به إلى الاستقالة من عمله واللجوء إلى الجبال والطبيعة، مخصصا وقته كاملا للكتابة والتأليف، حيث أنهى مجموعة من الكتب بمعدل كتاب كل سنة، أهمها كتابان هما: «الفجر» و»العلم المرح». كما بدأ في هذه المرحلة يقتحم ميادين جديدة أكثر حساسية للإدلاء برأيه حاملا المطرقة بتعبيره المفضل لهدم الأصنام التي بناها الفلاسفة والمفكرون ورجال الدين عبر العصور. فبعد صنم العقل يأتي دور صنم الحقيقة الذي ينبغي أن نوجه له الضربة الملائمة، أما الباب الواسع الذي يمكن الدخول منه إلى هذا الحقل الشائك فهو اللغة ،لأن ما يسميه الناس حقيقة هو عبارة عن حقل متحرك من المبالغات المجازية والتأويلات اللغوية، ومن كثرة استعمالها يعتقد الناس بأنها يقينيات، في حين أنها مجرد أوهام وخيالات لا يمكن الشفاء منها إلا بالإرادة والوعي النقدي.
– المرحلة الثالثة (مرحلة إعادة البناء) ودامت من سنة 1882 إلى سنة 1888، في هذه المرحلة ازداد مرض نيتشه وأصبح مولعا بالسفر والترحال، وكتب مجموعة من المصنفات المهمة والجريئة أهمها: «هكذا تكلم زرادشت» 1883 و»ماوراء الخير والشر» 1886، و»إرادة القوة» 1886، و»جينالوجيا الأخلاق» 1887. ومن المفاهيم الأساسية التي أبدعها في هذه المرحلة يمكن الحديث عن مفهومين أساسيين: إرادة القوة والإنسان الأعلى، حيث يرى بأن إرادة القوة هي التي تقف وراء كل دلالة وكل معنى، وكل قوة هي عبارة عن قناع، وخلع هذا القناع لا يعني الكشف عن أساس أخير، بل يكشف عن أقنعة أخرى. وبطل نيتشه لا يؤمن إلا بالشجاعة والكبرياء والإقبال على الحياة بنهم كبير، رافضا قيم العبودية والضعف وأخلاق الخضوع والاستكانة. لقد غادر نيتشه بلده الأصلي نحو قمم الجبال معلنا عن أفول الأصنام وميلاد الإنسان الأعلى الذي يمثل قيم التحدي والشموخ، قريبا من الشمس بعيدا عن ثنائية الخير والشر. وهذا ما يعرضه للأخطار حاملا شعاره المفضل: «عش في خطر، كي تجني من الوجود أسمى ما فيه».
لا شك أن الكثير من القضايا الفلسفية الكبرى عند نيتشه تشكل منعطفا حقيقيا في الفكر المعاصر. ومن أبرز تلك القضايا التي عالجها قضية التراتب في حقول القيم والأخلاق والدين والفن والميتافزيقا. لقد أقدم نيتشه على إحداث تراتب جديد في نماذج التأويل والفهم والتقويم، بناء على استرجاع الحس التاريخي المفقود الذي اختفى مع هيمنة النموذج الأفلاطوني وتحالفه مع التصور الديني الأبولوني في كتابة التاريخ الغربي في مجالات الفن والفلسفة والدين. لقد أخذ نيتشه إذن على عاتقه إعادة اكتشاف هذا التاريخ المنسي وبالتالي إعادة ترتيب سلم القيم خارج الموروث الأفلاطوني الديني. بالإضافة إلى ذلك فقد أحدث صاحب «جينالوجيا الأخلاق» تقابلا بين العقل والغريزة، من خلال التقابل بين أبولون وديونيزيوس، معيدا الاعتبار لهذا الأخير على حساب الأول، الشيء الذي ساعد على كتابة تاريخ الأديان بصورة جدية، ومن وجهة نظر مختلفة عما سبق في هذا المجال. لقد هاجم نيتشه الأديان بسبب تحولها إلى أداة سلطة وعنف في يد رجال الدين والكنيسة. إن الديانات الوثنية قد هدمت في نظره الهوة بين الإنسان والآلهة ومجدت ثقافة الرقص والغناء والموسيقى. أما اليهودية والمسيحية فقد تخلتا عن هذا الطابع الاحتفالي وكرستا ثقافة العبودية التي جعلت منها أبلغ تعبير عن التدين، وانتقلت هذه العقلية إلى المجال الأخلاقي حيث انتشرت ثقافة الطاعة والتبجيل والتعظيم حتى عند فلاسفة كبار أمثال كانط، لقد استعان نيتشه بالمنهج الفيلولوجي من أجل تفكيك هذه الأخلاق وهذا هو جوهر مشروعه النقدي .
تحتل مسألة التراتب مكانة مهمة في المنهج الجينيالوجي عند نيتشه، بل أن التراتب حسبه مصدر للقيم من جهة ومصدر لاختلافها من جهة أخرى، فصدور القيم حسب نيتشه متوقف على العنصر التراتبي الذي يقسم العالم بمواضيعه ورموزه إلى تعارضات مختلفة: أدنى، أعلى، شرير، طيب، قبيح، جميل.. وهي عبارة عن معاني دالة، وكل ما يدل على معنى فهو عبارة عن قناع يغلف تأويلات مستبطنة وسابقة، لذلك فإن مهمة فيلسوف المستقبل (والمشرع في الوقت نفسه) ستكون هي إعادة تقييم القيم وبناء التراتب الأصلي.
التراتب إذن هو المحدد للمعنى والقيمة وكل سيطرة تعادل تقييما جديدا «وباسم تراتب أفضل وأرفع سوف يراجع نيتشه جميع القيم، تتساوى في ذلك التاريخية منها والسائدة، والكشف مواطن الضعف والوهن، القوة والإثبات، في كل بنية صراعية محكومة بعلاقة السيطرة».
إذن كيف قرأ نيتشه هذا التراتب؟ وما هو أصل هذه التراتبات القيمية، وما حجم تأثيرها على ثقافة الإنسان الحديث؟ هذه عناصر الإشكالية المحورية التي تصدى نيتشه للإجابة عنها في نصوصه المزروعة بالألغام المجازية والمحكومة بسلطة الاستعارة. إن أهمية موضوع التراتب يمكن النظر إليه من الجوانب الآتية:
1- حضور نيتشه في الدرس الفلسفي المعاصر باعتباره يشكل منعطفا جذريا في تاريخ الفلسفة.
2- موضوع التراتب هو فرصة للمعرفة والاطلاع على حقائق الفلسفة والتعرف على تقنيات التأويل التي مورست من قبل عقول العصر الحديث كديكارت وكانط وهيغل.. ثم مسألة قيمتها والكشف عن محدودية نتائجها وقصور آليات تأويلها، ثم مكتشفا لمعالم فلسفة جديدة تبشر بتعاليم بديلة وقيم أرفع.
3- قلة الدراسات حول موضوع التراتب عند نيتشه بالمقارنة مع دراسات أخرى حول جوانب من فلسفته كالميتافيزيقيا وإرادة القوة والعود الأبدي، باستثناء بعض الدراسات مثل ما قام به جيل دولوز في كتابه القيم «نيتشه والفلسفة»، الذي تحدث في أحد فصوله عن مسألة التراتب حين قام بتحليل مفهوم السيطرة في البنيات الاجتماعية من الناحية الفنية والأخلاقية. وكذلك بعض الدراسات الفلسفية التي تناولت هذا الجانب في أبعاده الإيديولوجية والاجتماعية والتاريخية والسياسية.
باحث مغربي
المهدي مستقيم
للاشارة مقولة (بومة مينيرفا) ومفهومها الفلسفي ليست لنيتشه بل لهيغل(1770-1831)