هاجس الهواجس اللبنانية: السيادة على «التواصل الاجتماعي»

حجم الخط
1

يوماً بعد يوم يتحول التحكّم بالدفق الفردي والأهلي على مواقع التواصل الإجتماعي إلى هاجس الهواجس بالنسبة إلى السلطات اللبنانية على إختلاف مستوياتها وأنواعها، فتتخذ إستعارة «السهر» (سهر الدولة على أمن وأمان مواطنيها، على سبيل المثال) إلى تطبيق بالحرف، تطبيق مؤّرق للسلطات والناس معاً. تطبيق «وسواسيّ» بامتياز من حيث أنّ ما ينتاب هذه الحساسية الأمنية «الساهرة» على قنوات التواصل الاجتماعي بدعوى «تسهيل المرور» ومراقبة قوانين السير داخلها، لا ينم بالضرورة عن نهم منهجي لتقويض النكهة الليبرالية للمعاش اللبناني، على هشاشتها كنكهة، بقدر ما يعكس توجّساً من كون كل هذا المعاش غير مسند بأساسات تدعمه، وبكون كل ما يعيشه لبنان من استقرار متصدّع وسريع العطب، انما كاستقرار بالمقارنة مع سواه من بلدان الجوار، ليس عنده من ضامن ويحاذر ان يتبدّد في أي وقت، ولأوهن الأسباب.
يعود استشراء هذا الهجاس السلطوي بمواقع التواصل، في حالة لبنان، إلى جملة عوامل. أبرزها يبقى أنه في ظل غياب الفضاءات العمومية، وتراجع الاعلام، ليس الصحافة فحسب بل ايضا التلفزة، وتكلس الاكاديميا، وتحلل الاشكال الاخيرة الفاعلة للانتلجنسيا بالمعنى الحركي للكلمة، تحولت مواقع التواصل، وبخاصة «فيسبوك» إلى مستقبل كبير لكل هذا، إلى وهم «آغورا» يحتشد فيها الشعب كله، فيرغي ويزبد ويقول ما يحلو له، والى وهم «كونية» باعتبار الفضاء الافتراضي الذي تدون عليه كل هذه الاشياء يتجاوز الحدود اللبنانية. وهكذا، بعد ان تخاصمت القوى المتسيدة على الوضع الداخلي مطولا حول مفهوم السيادة، وضد من يوظف هذا المفهوم، اخذت تصطنع شيئا من التفاهم بينها على «السيادة على مواقع التواصل الاجتماعي». السيادة المنقوصة بازاء السفارات والاشرافات والكيانات الموازية للدولة صارت تجد ضالتها في السيادة الافتراضية على الفضاء الافتراضي.
بيد ان هذا التفاهم على السيادة الافتراضية يحضر مجتزأ بدوره. عندما كان الرئيس ميشال سليمان، دافع العونيون عن هجاء له على مواقع التواصل بدعوى ان هذا رأي والبلد فيه حرية رأي. وعندما صار رئيس العونيين رئيسا للبلاد انقلبت الآية. وما يصح في حال العونيين يصح في حال غيرهم بطبيعة الحال. قبل اسبوعين تظاهر المئات في ساحة سمير قصير في بيروت «ضد القمع»، بعد تزايد الاستدعاءات إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، الذي يدل اسمه على مكافحة اعمال القرصنة الالكترونية، لكن الاستدعاءات المتكررة تحصل في اطار مختلف تماما. المفارقة في تلك التظاهرة ان قسما من المشاركين فيها ضد قمع تعرض له مواطن كتب مهاجما رئيس الجمهورية، لم يمانعوا ملاحقة مواطن آخر بدعوى تهكمه على رمز ديني من طائفته نفسها، وتلك كانت حالة «طريفة» تستخدم فيها الطائفة جهاز الدولة ضد احد ابناء رعيتها، بدعوى انه مواطن «هذه المرة» في واحدة من فرقعات النظام الطائفي اللبناني. فنظام الدولة الطائفية يظهر اكثر من اي وقت مضى، وبفضل اشكاليات الفضاء الافتراضي «الاجتماعي» هذه، على حقيقته: الطائفة هنا «نقابة» تحميك من الطوائف وافراد الطوائف الاخرى، لكن في مقابل مصادرة حقوقك كانسان ومواطن وعامل ان كنت «ابنا» ضالا، او غير ضال، لها.
السيادة المبحوث عن تعويضها بالسيادة «الساهرة» على مواقع التواصل الاجتماعي، وكثافة انكباب اللبنانيين على هذه المواقع، وانعدام مفهوم «السواسية» في التعامل بين تياراتهم، والمنسوب العالي للشتم والتجريح عند اللبنانيين مقارنة بشعوب عربية اخرى، كل هذا يفاقم التهابات «هاجس الهواجس» الحالي. يتزامن الامر مع ازمة انسداد شرايين هذا النظام، نظام الدولة الطائفية، وغياب الأفق المستقبلي له بقطع النظر عن مدى قدرته على تأبيد حاضره الماضوي بالمكابرة والتبلد، سنوات اضافية. ليس قليلا بالمناسبة، ان لا يستأثر اقتراب مئوية انشاء دولة لبنان الكبير بأي نقاش فكري وسياسي جدي، مثلما مرت قبل عامين سبعينية الدستور اللبناني مرور الكرام. الوقت للتنمير الالكتروني، وللتسمر الالكتروني. ربما يسجل للاستدعاءات لبعض المواطنين على خلفية منشور الكتروني هنا او هناك، انها حاولت، على طريقتها، الخروج من «السجن الالكتروني» والتذكير أن هناك سجونا غير الكترونية، وهو ما استدعى اول اعتصام غير الكتروني للشباب اللبناني في وسط المدينة منذ فترة غير طويلة.
ثمة مقولة «في لبنان الكثير من الحريات والقليل من الديمقراطية»، وهي في الاصل للرئيس سليم الحص، كانت تصلح فيما مضى للاضاءة على جانب اساسي من المفارقة اللبنانية. هذه المقولة عجنت كثيرا على مر السنين، وتقلص مفعولها، وهي الآن بين تهفيت وتبكيت. في زمن الثورة الرقمية والتلفون «الذكي» والأبله في نفس الوقت، تتداخل اشكال كسر المراتب واعادة «تجبيرها» على مواقع التواصل، ويصبح التحكم بهذه المواقع هاجسا محموما. لا يعني هذا ان الحريات في لبنان في طريقها إلى تقلص على المنوال العربي، فبعد كل شيء ثمة فارق كبير ومهول بين منحى الاستدعاءات وبين «المنسيين في المعتقلات». الهاجس محموم كونه لا يمتلك شروطه. لا يمتلك شروط السيطرة على لعبة السوشل ميديا بمثل ما امتلك في نهاية المطاف شروط السيطرة على الميديا. في لبنان الكثير من الحريات التي تتعرض للانتهاك، انما للانتهاك العشوائي، الانتهاك الذي لا يستطيع الذهاب إلى خواتيمه.

٭ كاتب لبناني

هاجس الهواجس اللبنانية: السيادة على «التواصل الاجتماعي»

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Sammy:

    وكما قال الكرادلة الموارنة في لبنان “وقد اعذر من انذر!” وشكرا

إشترك في قائمتنا البريدية