هجرة من التعليم العمومي إلى الخاص: هل فقدت الأسر التونسية الثقة في المدارس والمعاهد الحكومية؟

حجم الخط
2

تونس – «القدس العربي» راهنت دولة الاستقلال في تونس على التعليم، وأنفقت من أجله الغالي والنفيس بعد أن خصصت له ثلث ميزانية الدولة على حساب أشياء أخرى كالتسليح والبنى التحتية وغيرها. فقد كان رهانا حقيقيا على البشر قبل الحديد والحجر، وخيارا سارت فيه البلاد لعقود وجنت ثماره في مرحلة ما، من خلال بروز نخب ساهمت في بناء البلاد ومن خلال تموقع الجامعات التونسية في مراتب مشرفة دوليا.
ويروى عن الزعيم الأسبق الحبيب بورقيبة أنه خلال إحدى زياراته إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع بدايات الاستقلال، وفي خطاب أمام الكونغرس، توجه إلى الأمريكان بالقول بأنه لا يطلب معونات مالية ولا عسكرية، وكل ما يريده هو مساعدة تونس على بناء مدارس جديدة وتعميم التعليم في كامل أنحاء البلاد. ولقي طلبه استجابة من الطرف الأمريكي الذي لم يعتد على هذه المطالب من زعماء وقادة بلدان العالم الثالث.
لكن سنوات قليلة بعد انقلاب السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1987 الذي أطاح من خلاله زين العابدين بن علي بنظام بورقيبة، بدأ التونسيون يشعرون أن أهم مكسب من مكاسب دولة الاستقلال، وهو التعليم، بدأ مستواه بالتراجع. حيث بات الأساتذة والمعلمون يشتكون من تدهور تكوين التلاميذ والطلبة، كما تراجع ترتيب الجامعات التونسية رويدا رويدا إلى أن غابت أو تكاد عن التصنيف العالمي.
ولم تعد للتونسيين الثقة بتاتا في تعليمهم العمومي في الوقت الحاضر ووجه المقتدرون منهم أبناءهم نحو المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة التي كان يرتادها الفاشلون في التعليم العمومي زمن بورقيبة وخلال العقد الأول من سنوات حكم بن علي. وبات خريجو الجامعات يلاقون صعوبات في اجتياز المناظرات الوطنية بنجاح للإلتحاق بالوظيفة العمومية ناهيك عن غياب أصحاب الكفاءة في القطاع الخاص.

اصلاحات كارثية

ويرى البعض أن السبب في تدهور التعليم في تونس، هو جملة من الاصلاحات بادر إليها نظام بن علي عادت بالوبال على هذا القطاع الحيوي. وهي اصلاحات لم تكن موفقة باعتبار أن أغلبها هو تقليد أعمى لفرنسا، اقترحتها أطراف فرنكفونية عليه، بالرغم من أنه من المعربين للتعليم، وفات هذه الأطراف أن هناك أمما أخرى تقدمت على بلد فولتير في ركب الحضارة كان يمكن الإستئناس بتجاربها.
ومن بين هذه الاصلاحات إلغاء المدرسة الابتدائية ومناظرتها الوطنية التي كانت تفرز مبكرا الغث من السمين ومن يصلح للوصول إلى الجامعة ومن يختص في المهن والحرف. وتم إقرار المدرسة الأساسية التي تمتد لتسع سنوات وضمت الابتدائي والمتوسط أسوة بفرنسا وفتح المجال للكل ليرتقي في السلم الدراسي بمن فيهم المستويات الهزيلة، وذلك خشية من جنوح المنقطعين مبكرا عن التعليم إلى الإنحراف.
وطالت «الاصلاحات» شهادة الباكالوريا (المناظرة الوطنية لنهاية المرحلة الثانوية) فأصبح من هب ودب قادرا على نيلها بالنظر إلى طريقة احتساب الأعداد التي أقحم فيها التقييم السنوي للتلميذ من قبل أساتذته خصوصا في المعاهد غير الحكومية. وأخيرا طالت التغييرات بعض اختصاصات التعليم العالي فاختصرت سنوات الدراسة فيها باعتماد ما يعرف بـ»نظام إمد» ما أثر سلبا على التكوين بالنسبة للطالب الذي يعتبر غير كاف في مرحلة الاختصاص التي ستؤهله إلى سوق الشغل.

عجز عن مواكبة العصر

وفي هذا الإطار تعتبر أستاذة التعليم الثانوي سنية الماجري في حديثها لـ «القدس العربي» أن التعليم العمومي في تونس يسير بخطى متعثرة وعجز عن مواكبة العصر، وهو في مفترق طرق فإما الإصلاح الشامل أو مزيد التدهور. وتؤكد على أنها لمست أن أولياء التلاميذ يجدون أمام هذه المنظومة غير واضحة الملامح في التعليم العمومي، أنفسهم مجبرين على التوجه نحو التعليم الخاص، وحتى محدودي الدخل يفعلون ذلك. وتؤكد أيضا على أنه وبالرغم من أن الأساتذة هم من داخل هذه المنظومة إلا أنهم يفاجئون بقرارات لم يكن لهم بها علم خاصة وأن الاستشارة التي قاموا بها كانت حبرا على ورق ولم يقع العمل بما تضمنته من نتائج.
وعن أسباب التراجع تقول: «ان تراجع التعليم العمومي في تونس يعود أولا إلى سيطرة التعليم الخاص، وثانيا إلى الخيارات التي تنتهجها البلاد، وثالثا إلى ضعف القرار السياسي، ورابعا إلى أوضاعنا بعد ثورة قمنا بها ولم نجن ثمارها إلى الآن. والتعليم الخاص في الواقع نجح في منافسة العمومي وتجربتي فيه مع ابني الأكبر كانت ناجحة، ولكني خائفة اليوم بل ينتابني الرعب على مستقبل التعليم في بلدي، فما دامت قيمة المدرس في تراجع بالتأكيد ينعكس ذلك عل المنظومة بأسرها من تلاميذ وإطار تربوي ككل».
وتختم الماجري: «لا ينصلح حال التعليم ما لم يكن الإصلاح نابعا من داخل المنظومة التربوية وبمشاركة أصحاب الشأن من مربين خاصة. اننا بصدد الحديث عن التعليم العمومي الذي يحتضر في تونس ولا يجب أن نتركه كذلك».
في المقابل تؤكد أستاذة الانكليزية ألفة العماري لـ «القدس العربي»، وبحكم متابعتها الميدانية لأحوال التعليم العمومي، أن هذا الأخير وعلى نواقصه أفضل بكثير من التعليم الخاص الذى ترى أنه يتميز فقط بجودة الخدمات. فلا خوف برأيها من منافسة المدارس الخاصة، بل الخوف هو أن لا يقع الاصلاح المناسب والناجع للتعليم العومي.
وتضيف: «نحن أبناء وبنات المدارس الحكومية ندافع باستماتة عن التعليم العمومي ونسعى لكي يستعيد عافيته وجودته. إني متفائلة خيرا لأني ألاحظ ان المدارس الخاصة ليست منافسا شرسا للحكومية. والتعليم العمومي قادر على التحسن ان وقعت مراجعة المناهج وطرق التدريس في المرحلة الابتدائية وحينها سينتعش التعليم العمومي لأن هناك حرصا من قبل المواطن على المحافظة على مكسب مجانية التعليم» .
وتختم بالقول: «المطلوب اليوم هو الانكباب على اصلاح المنظومة التربوية بكل شجاعة والبداية تكون بالمرحلة الابتدائية. فالتعليم العمومي في حراك».

غياب العدالة الاجتماعية

أما سمير ملاخ المربي والنقابي والسياسي فيؤكد لـ «القدس العربي» على أنه يعتز بأنه من أبناء التعليم العمومي وهو المكسب الأكيد للشعب كافة، لكن رهانات اليوم، برأيه، غير رهانات الأمس. ففي زمن العولمة باتت احتياجات طالب العلم، كثيرة وأصبح من الضروري إرساء منظومة تعليمية تغذيها، لكن المنظومة الحالية برمتها لم تعد، برأيه، تستجيب للتطلعات وتوجب إصلاحها.
ويؤكد على أنه كانت هناك إرادة سياسية في إعلاء الخوصصة على القطاع العام في فترة ما، والتعليم لم ينج من ذلك وطاله هذا التوجه. ويختم بالتساؤل: «هل هناك فعلا رغبة سياسية لإحداث ثورة جديدة في التعليم العمومي، تجعله يتصالح ويسترجع ثقة العائلات التونسية؟…الأكيد لا.. لسبب بسيط وهو التخلي ولو نسبيا عن التعليم العمومي لكي يصبح التعليم مرتبطا بالإمكانيات المادية لكل عائلة، وهنا نتساءل أين هي العدالة الاجتماعية؟».
ويرى كثير من الخبراء والعارفين بالشأن التعليمي في تونس أن خيار تطوير التعليم الخاص على حساب العمومي خلال العشرية الأخيرة من حكم بن علي، كان سببه إملاءات صندوق الدولي على الدولة التونسية. فيما يرى آخرون أن الأمر تم بدفع من رجال الأعمال والمستثمرين في القطاع التعليمي الراغبين في الربح، وأيضا من المافيات التي تعتاش على هذا القطاع، لأن التعليم العمومي المتميز بجودته يقف حجر عثرة أمام هؤلاء في عملية استقطابهم للطلبة وفي إقناع أولياء التلاميذ في دمج أبنائهم في القطاع الخاص.
وتؤكد أطراف عديدة على أن كثرة الإضرابات بعد الثورة، في صفوف معلمي الإبتدائي وأستاذة التعليم الثانوي المنضوين في نقابات ترجع بالنظر إلى الإتحاد العام التونسي للشغل كان من أسباب نفور أولياء التلاميذ من القطاع العام والتوجه صوب التعليم الخاص. فلا يشك عاقل أن هذه الاضرابات المتكررة تؤثر سلبا على تكوين التلميذ، حتى وزير التربية ناجي جلول المنتمي إلى حركة نداء تونس، اتخذ قرارا السنة قبل الماضية يتعلق بنجاح كل التلاميذ إلى السنة الموالية بعد أن أضربت النقابات خلال فترة الامتحانات ليا لذراع الحكومة من أجل مطالب.
ويبقى السؤال الأهم هل ينجح وزير التربية الحالي ناجي جلول في الإيفاء بالتزاماته ووعوده المتعلقة باصلاح التعليم؟ خاصة وأنه ألغى احتساب التقييم السنوي للتلميذ من المعدل العام للباكالوريا (مناظرة الدخول إلى الجامعة) وعادت الأمور كما كانت في السابق أي اعتماد التقييم المتحصل عليه في المناظرة نهاية السنة تجنبا لمحاباة الأساتذة لتلاميذهم. كما أنه أعاد الإعتبار لشهادة ختم التعليم الإبتدائي إضافة إلى جملة أخرى من الإصلاحات تدل على أن هناك رغبة في تجاوز هذه المعضلة التي أرقت التونسيين وهي تراجع التعليم العمومي، لكن هذه الاصلاحات لا تحظى برضا الكثيرين ويعتبرونها فاشلة ولن تحقق النتائج المرجوة.

هجرة من التعليم العمومي إلى الخاص: هل فقدت الأسر التونسية الثقة في المدارس والمعاهد الحكومية؟

روعة قاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحكيم مولهي تونس:

    ما وصل اليه التعليم في تونس هو نتيجة منطقية لسياسة تهميش المربي والحط من قدره في المجتمع من خلال احتقار قيمة العمل وتشجيع الدولة المافيوزية للكسب السريع و المتاجرة في كل شيءواولها في القيم…الله لا تربحك يا بن علي انت وكل من تمعش من اصلاحاتك الفوقية المسقطة على رجال التعليم وعلى المجتمع ككل..في زمن المخلوع اصبح النجاح اليا واجباريا اذ كيف لمن عقدته التعليم ومن لا يملك ادنى الشهائد العلمية ان يقوم باصلاح حقيقي للمنظومة التربوية.

  2. يقول حسن بن منصور -بنزرت - تونس.:

    ما يقال عن التعليم العمومي و الخاص يقال أيضا عن الصحة العمومية و الخاصة..اذا وصل التكالب على الربح من جهة و تخلي الدولة عن هاذين المرفقين من جهة أخرى ستختل الموازين لا محالة..يجب اعادة الاعتبار للمدرسة العمومية باصلاح جذري في البرامج الرسمية و طرق تدريسها برسكلة رجال التعليم و اجراء التقييمات الأساسية عبر الامتحانات الوطنية و الارتقاء على أساس المستوى الحقيقي للتلميذ خاصة و قد أصبح لدينا أساتذة تعليم ابتدائي..

إشترك في قائمتنا البريدية