«هديل الغيمة» لعبد العزيز الهمامي: قصائد بنبرة الانكسار

حجم الخط
0

لا يخلو غرض شعري من أغراض «هديل الغيمة» من نبرة انكسار وألم، فالقصيدة عند الشاعر عبد العزيز الهمامي سرعان ما تبوح بانكسار ذاتها وتصادم جماليتها مع الراهن وتناقضاته فهي مشحونة بالكثير من القلق والألم والتأفّف. ولعل هذا ما حمل لفظة الغيمة لتتصدر العنوان، وتشير إلى الضبابية والارتياب وتنفي عن اللحظة الصفاء والوضوح.
هذا الانكسار سنتابعه عبر أهــــــم مـــــا لاح من أغراض في هذا العــــــمل، فهو يلقي ظلاله على كتابة المكـــــان، وعلى تصـــوير المجتمع، ويتجلى في الخطاب الميتالغوي أو خطاب الشعر على الشعر.
درج عبد العزيز الهمامي على الوفاء لهذا الغرض في مختلف أعماله، فلقد سلك تجربة التجول في المكان وقد شكلت القيروان مدارا لهذا الاهتمام، ونقطة انطلاق نحو الوطن. والمتأمل في إطلالات المنزع المكاني في هذا العمل يخلص إلى حرص الشاعر على إبراز صلته بالمكان وأحاسيسه الحميمية نحوه:
«أصغي إلى طرب العنادل في دمي
وإلى البراري تحتفي بجيادها
الأرض عندي وردة وحمامة
وأنا اكتحلت بطميها وسمادها»
ولكن هذا العشق يصطدم بالراهن الباعث على الاغتراب والغربة واللوعة، فيصور الشاعر المدائن وقد لفها الانهيار وبعثت في نفس الشاعر حزنا وغربة:
«واليوم تسقط في الشباك سجينة
وتباع في الأسواق بعد مزادها
وتضيق بي سبل تنوء بغربتي
ضيعت خطوي في كهوف سوادها»
ولعل هذا الخطاب المنكسر أو خطاب الخيبة يتجلى أيضا في قصيدته «إلى القيروان» إذ يعبر عن حيرته وألمه لتراجع المدينة ويصور انكسارها:
«يا ذات الأبواب الزرق
وذات الجدران البيض
ما للوردة تذوي
ومياه النهر تغيض
ما للأحجار تبعثرها الريح
وجناح العز مهيض»
ولعل هذا التصوير يدفع به من جديد إلى إعلان غربته ومرضه:
*وأنا كالطائر مغترب
في زرقة عينيك مريض»
هذه الحيرة التي تطبع علاقة الشاعر بالمكان تظهر أيضا في حديث الشاعر عن العروبة وتصويره حالة الانكسار والانهزام:
«ما للنياق هجرن البيد والكثبا
طال الطريق وهذا الماء قد نضبا
لا الخيل عادت ولا فرسانها ظهروا
هل أدبروا الصبح أم ليل الهوى ذهبا»
في الشعر الاجتماعي
تنحو بعض القصائد منحى الشعر الهزلي الاجتماعي الساخر وهو شعر عرف ازدهاره في أزمنة سابقة، وندر حضوره في الراهن، ويبدو أن مرارة الواقع أعادت الشاعر إلى هذه النبرة الساخرة فجاءت بعض القصائد لوحات اجتماعية ساخرة ومصورة لليومي وتناقضاته. فكتب عن ظواهر اجتماعية عديدة حاملا نظرة لهذا العصر فتطرقت بعض القصائد إلى الانحلال الأخلاقي، والأخرى إلى معاناة البطالة وما فيها من محاباة وعدم شفافية. فالعاطل ملّ مطالب الشغل المرفوضة وهزمته المحاباة، فابتكر فكرة ساخرة:
«لكنني في هذه المرة
غيرت اسمي امرأة
سميتها أمل
مرفوقة بصورة وهمية
لغادة فاتنة الجمال
كأنها حورية
ولم يكد يمر يومان على الطلب
حتى أتاني الجواب في أدب»
وفي قصيدة الدرس يصور ما أصبحت عليه الأجيال الجديدة من تفسخ وانحلال أخلاقي
«ترى في دفترها
بين الأوراق
صورا في هاتفها مخجلة
ولفافة تبغ
ورسائل مفعمة
بالحب والأشواق
وستعجب كيف مضى زمن الأخلاق»
وتصور قصائد أخرى الكثير من الانقلاب القيمي، وتفضح سلوكيات بعض المنافقين وبعض السياسيين المتهاونين.
خطاب الشعر على الشعر:
من المألوف في التجارب الشعرية القديمة والحديثة ما يرد فيها من خطاب الشعر على الشعر، وهو ما يسمى بالخطاب الواصف ويندرج ضمن الوظيفة الميتالغوية، حينما تتخذ الكتابة من ذاتها موضوعا. ولعلنا في هذا العمل نعثر على قصائد وأبيات تلعب هذا الدور، ومنها قصيدة السراب وهي التي تتخذ من الشعر موضوعا، ويتطرق فيها الشاعر إلى جملة من المواضيع على صلة بالموقف من الشعر، منطلقا من خطاب الاحتفاء بالشعر ومكانته في النفوس:
«يبس التراب وجفت الأنهار
فاكتب قصيدك تورق الأشجار
الشعر غيمتنا إذا ما استيقظت
في كل قلب تهطل الأمطار»
ويتناول الشاعر عدة مواضيع، منها التعبير عن موقفه من الكتابة الشعرية والانتصار للنموذج العربي الأصلي والتمسك بالأوزان الخليلية، وبمصطلحات الشعر العربي القديم ولوازمه من قواف وبيان فيأتي ذكر الأوزان الخليلية:
*واصدح بأوزان الخليل مرتلا
نغما تهيم بشوقه الأوتار
ويذكر الشاعر القوافي:
«في كل قافية جناح حمامة
وسواحل لا تنتهي وبحار»
ويهتم الشاعرفي هذا المجال بعلاقته الذاتية بالشعر مشيرا إلى رحلته الطويلة معه:
يممت من زمن قوافل رحلتي
حتى تعبت وشابت الأعمار
ولا يخفي الشاعر في هذا المجال موقفه من راهن الشعر وانكساره بسبب موجة ادعاء الشعر التي يشهدها زماننا الراهن:
«واليوم تنكسر القصيدة فجأة
ويبيض في عش الفراغ صغار»
و يعبّر الشاعر في هذه القصيدة عن أسف عميق لحال الشعر العربي اليوم:
«أسفي على شعر يصير بضاعة
من حولها يتزايد التجار»
لعلنا نخلص في ختام تناولنا لهذه الأغراض أنها تنطوي على بنية نفسية ثنائية. فحب المكان والافتتان بالكلمة والشعر يقابله انكسار يتجسد في حالة الوهن والهزيمة والانحلال الأخلاقي وأفول زمن الكلمة، وهو ما يجعل الكتابة الشعرية عند عبد العزيز الهمامي كتابة للحظة الانكسار.

٭كاتب تونسي

«هديل الغيمة» لعبد العزيز الهمامي: قصائد بنبرة الانكسار

رياض خليف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية