هروب رئيس وأعضاء البرلمان العراقي… وماذا بعد؟

سيبقى يوم الثلاثين من أبريل المنصرم شاهدا حيا على أن مؤسسات الدولة والحكم لن تولد بحمل كاذب، حتى لو كان خلف تلك الولادة قوى دولية كبرى، لديها من القوة ما يكفي لإجبار الآخرين على القبول والرضوخ، والاعتراف بالحكم المصطنع والمؤسسات الشكلية والسيادة الوهمية.
فقد دخلت الأزمة السياسية في العراق مرحلة جديدة في هذا اليوم، بعد إعلان حالة الطوارئ، ووضع الجيش والشرطة والقوى الأمنية في حالة إنذار، نتيجة اقتحام أتباع التيار الصدري المنطقة الخضراء، ودخولهم بناية البرلمان، بأشارة ضمنية من زعيمهم، الذي أعلن إيقاف العمل السياسي للتيار، ومقاطعة كل السياسيين، احتجاجا على إخفاق البرلمان والكتل السياسية في تقديم تشكيلة وزارية بعيدة عن المحاصصة. وإذا كان هذا هو عنوان الأزمة الظاهر للعيان، فإن جذورها أعمق بكثير، وأبعد من موضوع أزمة برلمان وتشكيلة وزارية. إنها مجموعة أزمات متداخلة تاجها أزمة الحكم القائم على أساس التشكيل الحكومي، وفق نسب الطوائف والمذاهب والإثنيات في المجتمع، الذي خلق بدوره صراعات بين الكيانات السياسية المختلفة، لتقوية أسهمها في الحكم، وتعزيز مواقعها في البرلمان والسلطة التنفيذية، ثم تدحرجت كرة الصراع وصولا إلى بنية الحزب الواحد، وحتى التحالف المشكل من لون طائفي أو إثني واحد، لتبلغ ذروة في الهشاشة والتشظي، وأبرز مثال على ذلك الصراعات القائمة بين الاحزاب الكردية نفسها، وصراعات التحالف الشيعي البينية، ومؤامرات قوى التحالف السني ضد بعضها الآخر. وما الأزمة الحالية التي استفحلت خلال الايام القليلة الماضية، إلا جذوة صراع متجذر بين حزب الدعوة الاسلامية، الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي من جهة، وبين زعيم التيار الصدري من جهة ثانية.
لقد نجح هذا الحزب باحتكار رئاسة السلطة التنفيذية على مدى ثلاث ولايات، ضرب فيها الكتل السياسية المختلفة عنه بالثوب الطائفي، وخلق طابورا خامسا في بنائها التحالفي يعمل لصالحه، بينما حاول إخضاع أطراف التحالف الشيعي الذي ينتمي اليه، بإغراءات السلطة وإمكانات الدولة المادية والمعنوية، كما نجح ببناء علاقات مع أطراف إقليمية ودولية كإيران والولايات المتحدة، مكنته من كسب فهم الآخرين لسلوكياته وجرائمه السياسية والأمنية ضد الشركاء في العملية السياسية، لكن التيار الصدري بقي يعاني من العقدة التي صنعها نوري المالكي في العلاقة معه، والتي نتجت عن قيادة الأخير حملة عسكرية استهدفت ذراع التيار العسكري، ميليشيا جيش المهــــدي، في المحافظات الجنوبية وبغداد أيضا، حيث قتل الكثير منهم وزج البعض الآخر في السجون.
هذه العلاقة المضطربة بقيت في حالة مد وجزر تبعا لضغوط المراجع الدينية لكلا الطرفين، وعندما استغنت إيران تماما عن الصدر لصالح بناء تحالف مع نوري المالكي، انتقل الأول إلى الاعتماد على جماهير تياره أولا، وأطراف سنية وكردية وعربية مجاورة، للقيام بتحركات سياسية تضع العصي في عجلة نوري المالكي تمهيدا لإسقاطه. وإذا كان سقوط الأخير وعزله من الولاية الثالثة بفعل أطراف كثيرة وليس التيار الصدري وحده، لكن المالكي عاد من النافذة ونجح في استغلال فتوى الجهاد الكفائي لمحاربة تنظيم الدولة، في بناء ميليشيات عسكرية سميت الحشد الشعبي، وبات المرشد الاعلى لها، فاستشعر الصدر بالتحدي مجددا من خصمه اللدود، خاصة أن هذه القوة الجديدة التي بعض فصائلها منشقة عن تياره، بدأت تضع قدما لها في العملية السياسية، وباتت صاحبة كأس مُعلّى في البيت الشيعي. هنا نجح الصدر في لعبة السياسة وخدمته ظروفها الآنية.
أولا نظر إلى رئيس الوزراء الحالي فوجده بطة عرجاء عاجزا تماما عن أي يفعل مؤثر، بل تتقاذفه إرادات القـــوى الكبرى في البيت السياسي الشيعي كما تشـــاء، فذهـــب لدعمه وربما التنسيق معه، خصوصا أنه يريد ذلك للخروج من حالة الورطة التي هـــو فيها.
ثانيا استغل الصدر الاستياء الشعبي العام من حالة الفساد المالي، الذي برز على السطح بشكل بارز، بعد أن كانت السلطة تغطي عيوبه بالوفرة المالية من واردات النفط، فبات اليوم غير قابل للتغطية بعد هبوط الواردات المالية.
ثالثا يعلم الصدر علم اليقين أن أي إصلاح غير قابل للتحقق في ظل الطبقة السياسية الحالية، الذي تياره جزء منها، لكنه يركز على الاصلاح كوسيلة يتوسل بها لتحقيق طموحه السياسي بإسقاط المالكي وحزبه من المعادلة السياسية. لكن هل هذه الاوراق التي في يد مقتدى الصدر قادرة على تحقيق ما يريده؟ الواقع يقول إن الصدر لا يستطيع إلغاء التراتبية السياسية الحالية في المشهد العراقي، لأنها تراتبية فيها مصالح إقليمية ودولية وليست محلية. تعزيزا لهذا الرأي نجد أن الاتحاد الأوروبي أدان اقتحام التيار الصدري للبرلمان العراقي، ووصف الفعل بأنه اعتداء على الشرعية الانتخابية. كما لا يمكن إغفال زيارة الدعم للسلطات العراقية التي قام بها جو بايدن نائب الرئيس الامريكي.
إن النظام السياسي العراقي يسمى نظاما برلمانيا، وعندما يشهد البرلمان كل هذه الازمة الحادة، وتتدخل القوى الأمنية معززة بالكلاب البوليسية لفض الاشتباكات بين نوابه، ثم يجتاح المحتجون بناية البرلمان ويتعرض النواب إلى الضرب والاهانة، ويهرب رئيسه ونوابه من الأبواب والنوافذ، وينهار بهذا الشكل المذل، فهو يعني أيضا انهيار الدولة وفقدان شرعية الرئاسات الثلاث التي أنجبها البرلمان الاضحوكة، حتى بات من المعيب حقا على سليم الجبوري وبقية النواب العودة إلى البرلمان مجددا تحت أي ظرف. الغريب أن رئيس البرلمان الذي خلعته الاكثرية النيابية قبل ايام، ثم خلعته الجماهير التي حطمت كرسيه بعدها، مازال يصر على ضرورة الحفاظ على هيبة الدولة. لا ندري عن أي هيبة يتحدث؟ ومتى كانت تسمية دولة، يمكن أن تنطبق على هذا الكيان الهزيل، الذي تتقاسمه أحزاب وكتل وشخصيات، كانت تجربتهم في الحكم خير دليل على أنهم ليسوا رجال دولة؟ فماذا بعد؟
إن المشهد الحالي يعطي انطباعا، بأن الحراك قائم على رفض العودة إلى المحاصصة الحزبية المستندة إلى المحاصصة الطائفية والإثنية، لكن الحقيقة أن قوى محلية ودولية وإقليمية لن تسمح لهذا المشروع بالظهور إلى النور، لانه باتت له قوة القانون غير المعلن. لا وجود له في الدستور لكنه موجود فيه بالروح والمعنى، ولا وجود له في القوانين المرعية، لكن روحه موجودة فيها أيضا. إنه يعتمد على مقولة أن طوائفنا وإثنياتنا سبقت وجود الدولة بعقود من السنين، ولأن القوم أفنوا الدولة فبات في عرفهم ضرورة الرجوع إلى ما قبل الدولة، لذا يستعد الحشد الشعبي للدخول بسلاحه إلى المعترك السياسي الحالي، كي لا يأكل من جرفه رفاق الطائفة وأخوة البيت السياسي الشيعي، عندها سنشهد مسرحا يغص بالدماء وحربا أهلية لا تبقي على شيء. أين الثلاثة الكبار؟ رئيس الجمهورية بلا صلاحيات. رئيس البرلمان خذل نفسه والكرسي الذي يتصدره، ومازال يحلم بهيبة الدولة. رئيس الوزراء لا لون له ولا طعم.

٭ باحث سياسي عراقي

 

هروب رئيس وأعضاء البرلمان العراقي… وماذا بعد؟

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    حزب الدعوة هو النسخة الشيعية من حزب البعث
    لقد سيطر هذا الحزب العميل لإيران على مفاصل الدولة العراقية كما فعل حزب البعث حين كان بالسلطة
    وأهم شيئ هو بإزاحة الخصوم والمنافسين وإعتقال المعارضين بسجون سرية لغاية الآن
    وما ثورة الصدريين إلا شعورهم بالظلم من عدم إقتسامهم للغنائم !
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    ساحة الحكم في العراق منذ 1958 حتى اليوم تتمحور حول تسلم السلطة بكل وسيلة لأجل الحكم فقط كتظخم ذاتي عسكري (1958-68 حدثت 8 انقلابات فشلت 4 منها وتسلمت السلطة 4) أو حزبي أو شخصي بغطاء مُلفق عليه مُسبقاً في دهاليز السياسة الخارجية ويركض ورائها أطفال يبحثون لهم عن أشباه أسماء وأزياء جميلة وطعام خبيث وبيدهم سياط للمواطن وسرقة كل شيء, ثم ييذهب فيما بعد لقبره ملعونا فهو جاء تحت إسم بلا فعل له شعار فقط وأخيرا تحت غزو أمريكي إيراني مزدوج بقيادة تجمعات تحت غطاء الدين ومشتقات مصطلحات ظهرت تأريخيا فيما بعد للتنافس على السُلطة وللتسلط فقط بأسماء خادعة للشعب النائم في جهلة بنفسه وبدينه الحقيق. هذا هو الانسان الشيطان بثياب مُلوَّنة. ولله في خلقة ومخلوقاته عِبَرٌ وحِكَمْ وصراعات على كُنوز الدنيا لأجلٍ مُسمى للجميع. فهنيئا للمتصارعين على بطولاتهم في الساحات المتعددة المناشط والسياسة أحدها ؛ فهي رأس الافعى.
    السياسة فراسة إدارة بعلم وخُلق ومبادئ سامية لخدمة سعادة الارض والانسان والحيوان والنبات والجماد. السياسي خادم بلده الامين وإلا فهو آفاق ودجال ملعون في دنياه وآخرته تأريخيا واجتماعيا. فمن ذا الذي سيصل لهذا المستوى؟ فلننتظر.

  3. يقول عبدالله العمري:

    ما قام به مقتدى الصدر وأتباعه ما هي إلا مسرحية كتبت فصولها في إيران وبوركت من المحتلين الأمريكان .. وقد أسند دور للأحزاب والكتل المشاركة في العملية السياسية كل حسب موقعه ..علماً أن بطولة المسرحية كان لمقتدى الصدر وأتباعه …

إشترك في قائمتنا البريدية