■ صدرت مؤخراً عن مكتبة السلام الجديدة في الدار البيضاء، المجموعة القصصية الأولى للكاتبة المغربية نادية الأزمي، وحملت عنوان «هزائم صغيرة». جاءت المجموعة في ثمان وثمانين صفحة من القطع المتوسط، تضم تسعة وعشرين نصا تميزت بالغوص في واقع الحياة.
عالجت الكاتبة مواضيع مثل الهجرة السرية، وقضية المرأة داخل المنزل وخارجه، وعلاقة السلطة بالمواطن، إلى غير ذلك من القضايا المطروحة. الكاتبة اهتمت بمسألة الهجرة السرية وغياب أي حل لهذه المعضلة التي التهمت الكثير من الأرواح، وهدمت الكثير من البيوت. فقد كلمت المرأة في ابنها بعد أن سعى إلى الانتقال إلى الضفة الأخرى بعد أن ضاق ذرعا بواقعه، لكن رياح المرارة أبت إلا أن تسير به باتجاه الموت. قسوة المجتمع: كما أن الطفلة وهي تبكي دميتها لم تكن تقوم بذلك إلا تعبيرا عن قسوة حاضرة في الواقع، واستهتارا بحقوق الآخرين، وعدم مراعاة مشاعرهم، فمن الصغير إلى الكبير، تعم ثقافة العنف، ذاك ما لاحظته الساردة وهي تطل من النافذة وقد هدأت سورة غضب الطفلة. العقم والخوف من الانفصال: العنف يأتي في طبق الزوجية، حيث الرجل يبحث له عن خلف، لكن زوجته تعاني العقم،
تنوع الشخوص
تدفعنا المجموعة إلى استحضار الشخوص الفاعلة في النص، حيث المرأة العجوز، والشابة، والطفلة، كما نجد الرجل بمختلف مراحل عمره، ولابد من استحضار عنصر مهم أثناء إنجاز هذه العملية، تتمثل أساسا في التقابلات بينها، بحيث نعثر على الفئة المستضعفة مقابل الجهة المستبدة، مما يولد الصراع على المستوى السياسي/الاجتماعي، تنهض من داخله مقابلة بين ثنائية أخرى تصب في مجراه وتغذي أبعاده، ونقصد بها المقابلة بين الرجل والمرأة، مقابلة تشي بصراع ينم عن وعي لدى الذات الأنثوية، يبغي عبور الكائن المرفوض إلى الممكن المأمول عبر توليد علاقة جديدة مؤداها المساواة والاحترام. فالمرأة لا تبغي سوى الاعتراف بكينونتها، وبوجودها، وأن تنال الاحترام، وتحظى بالاهتمام والمحبة. إن أي فعل يشي باحتقارها، وتقزيم ذاتها سيؤدي، لا محالة، إلى إعلان رفضها له وبالتالي ثورتها عليه. الرفض يكون للبنيات القديمة التي مازالت تولد رجالا يعتقدون أنهم الأسياد، وما الأنثى سوى خادم مطيع، ودمية متعة وإمتاع.
الانسجام النصي
أولت القاصة عناية خاصة لنصوصها كتابة وصوغا، وأبرز مثال معبر عن هذا المنحى، قصة «أوهام» فقد وظفت فيها الكاتبة معجم الماء للتعبير عن عنصرين أساسين، وهما: العطش والارتواء، والسباحة والغرق. ولم يكن هذا التوظيف إلا لإضفاء مسحة جمال على النص تقوي أبعاده الدلالية من جهة، وتحقق به انسجام قصتها وتناسقها، وهي من الأبعاد التي حرصت القاصة على تحقيقها في مجمل نصوصها. بالنسبة للعطش والارتواء، نعثر على أن الرجل هو الذي يعاني من التصحر، ورغبته الشديدة في الارتواء، إلا أنها رغبة تظل طي الغيب، وغير متحققة، لكون الطرف المرغوب فيه غير مبال بالمرة، ولكونه من طبقة أعلى، الأمر الذي يزيد من لهيب عطشه، وحر شوقه، ويسعر نار حرمانه، وهو القريب من الماء. وفي حين، يكون الارتواء من نصيب الطرف المرغوب فيه فهو الذي يمتلك حق الفعل والقول، إنه صاحب الإرادة، والمعبر عن رغباته بالفعل لا بالقوة فقط فمن يمتلك القوة والسلطان يمتلك الواقع، ومن لا يمتلكهما يظل سجين أحلامه، وأوهامه، ومن هنا بلاغة العنوان. فالمرأة المشتهاة، تظل عصية على الرجل، بعيدة عن متناول يديه، ولذا، نجده يغرق شيئا فشيئا، إلى أن تأتي لحظة الصفعة القاضية، حيث تنتشله بفعل قوتها من شروده، وتعيده إلى واقعه. وهذا الانتشال يدفعنا إلى الوقوف عند الثنائية التالية؛ ثنائية السباحة والغرق. السارد هنا يرصد حركات وسكنات عشيقته التي سلبت لبه، وهي تقوم بنشاطها في البحر غوصا وسباحة، لكنه يقوم بالغوص في ثنايا حلمه معبرا عن خلجات قلبه، ويرصد الحركات وأثرها في نفسه الأمر الذي يسمح لنا باستنتاج غرقه. وليأتي الانتشال في آخر النص، لكنه انتشال بطعم الموت؛ لم يكن إنقاذا، بل إخراج من متعة رغم أنها وهمية. إن النجاة كانت من نصيب العشيقة غير المبالية، لأنها لم تتورط في علاقة بمن هو أدنى. وبناء عليه، يمكن القول إن أي علاقة غير متساوية الأركان، وغير سليمة البناء، مآلها الخسران، وأن على أي طرف أن يكون في مستوى الطرف الآخر ليحقق إشباعه العاطفي، وأي توهم مصيره الكآبة والضياع. وإذا جاء في بداية النص مفردة الطوق، فإن ذلك يفترض حضور كلمة مناسبة لها تدخل في مجال تداولها، ونقصد بها الغرق، وإلا لن يكون لها معنى، ولن يزيد وجودها إلا تفكيكا للقصة، وهذا أمر غير وارد؛ فالقصة اعتمدت على بناء انسجامها من خلال ترابط ألفاظها، حيث نعثر في نهاية القصة على كلمة انتشال، مما يعني أن مفردات النص قد وضعت بطريقة ذكية، وشغلت بشكل يحقق انسجاما نصيا واتساقا دلاليا. وإذ نشير إلى كلمة الطوق، نؤكد على أنه لم يحقق للسارد العاشق نجاة، بل جعله يغرق لكونه طوقا وهميا.
تنويع الضمائر
تقدم الكاتبة نصوصها من خلال توظيف كم متنوع من ضمائر الحكي، ولكن الغالب عندها هو توظيف ضمائر المؤنث الغائب، وضمائر المؤنث المخاطب، توظيف هذا النوع الغالب من الضمائر يمكن من التحكم بدقة في مجرى السرد، مع الحد من حرية الحركة لدى الشخصية الحكائية، بمعنى حصول نوع من الالتفاف حول الشخصية والتحكم في مصيرها بكل عزم وتصميم.
العنونة:
وكما أن عناوين نصوص المجموعة جاءت معبرة ودالة على نسيجها الحكائي نلاحظ، تلك الحوارية القائمة بين العنوان المظلة، والعنوان الداخلي، ولاسيما عنوان قصة «انتصارات صغيرة» وكأن المجموعة تأبى الخضوع لنغمة اليأس المولدة من الهزائم، وتنحاز للانتصار، فبفعل التضاد ينهض الفعل الإيجابي، بانيا عالما آخر ممكنا، قد يكون بواسطة قوة عليا، فالظاهر فيه ومنه أنه استسلام، ورضوخ، وبالتالي عجز عن الفعل، لكن المضمر هو اعتماد قوة الإيمان في رد شهوة التسلط، والوقوف في وجه جبروته. فالمرأة وحيدة عزلاء، ولا تمتلك أسلحة حماية سوى التوجه إلى الخالق طلبا للعدل. وقد يكون بفعل داخلي، ينطلق من داخل الذات إلى خارجها، محطما الأوهام والأصنام، كما في نص «أضغاث لقاء» إذ إن قول الحبيبة للرجل الواهم: ذكرياتك لم تعد تلزمني، هو من جهة، رفض لتسلط الرجل، ومن جهة أخرى، هو إقبار لفكر ظل سائدا وسيدا، يتحكم في رقاب النساء، ويخضعهن لعنجهية الرجل. إنه قول فصل، ما كان يتوقعه سي السيد، وما خطر بباله، ومن هنا قوته، فالمفاجآت تمتلك سلطة الهدم بأفق إعادة البناء بما ينسجم ويناعة الإنسان من دون تمييز. كما أن بعض العناوين لا تمنح سرها لكونها في خاتمة النص، لا تطل إلا بعد استحضار فعل القراءة الكاشفة،
فنية اللقطة
اعتمدت القاصة تقنية السينما خاصة اللقطة الكبرى برصد جزئياتها فقد شكلت نصها «البحر والتراب والأحلام» وفق حركة لولبية تروم التقاط مكونات المشهد الكبير بالتقاط جزئياته وعناصره الصغرى. فالكل في جزئياته، والجزئيات عناصر تؤثث الكل وتسهم في تشكيله، وما على القارئ إلا جمع المتفرق لبناء المشهد الكبير. هكذا كل المشاهد الجزئية ترسم في إطار زمني معبر عنه بغروب الشمس، وقد بردت الرمال. ثم تنتقل عين السارد لترسم معالم البنايات القائمة على الطرف الآخر وما تتميز به.
يشار إلى أن القاصة ظلت مرتبطة بمحيطها باعتمادها نصوصا عابقة برائحة البحر، كما في نصيها: «إلى متى !؟»، و «البحر والتراب والأحلام»، فضلا عن نصوص ذات ارتباط بالماء والسباحة.
لقد أحاطت الكاتبة مجموعتها بالحد الأدنى المحقق للمتعة الفنية والجمالية باعتمادها البساطة الموحية، وهي بساطة تدخل ضمن السهل الممتنع فضلا عن الاحتفاء بالمكان وبخاصة في بعده البحري.
٭ كاتب مغربي
عبد الرحيم التدلاوي