نختم سلسلة المقالات عما سميناه بالعلاقة المشبوهة بين أرقى الإبداع وأسمج الاستبداد بالنظر في بعض المحاولات التفسيرية لهذه الظاهرة الملغزة في التاريخ السياسي والثقافي: لماذا يهيم بعض عظماء الفكر والفن ببعض مجانين الحكم والظلم إلى حد التعامي عن جرائمهم والتصامم عن استغاثات ضحاياهم؟
من السهل إصدار الأحكام. ولكن الأصعب أن نحاول الفهم، خاصة بعد انكشاف حقائق صادمة من مثل ما ذكره الكاتب الروماني ـ البرازيلي ستيفان باسيو عن اصطحاب تشي غيفارا بعض المثقفين الفرنسيين ليشهدوا معه عمليات الإعدام العلنية في هافانا. وتقتضي محاولة الفهم، أولا، الانتباه إلى أن المواقف قد تتغير أو تتطور. فقد كان أصيل البيرو الكاتب ماريو فارغاس يوسا، الفائز بجائزة نوبل2010، صديقا للنظام الكوبي في الستينيات، كما كان سارتر معجبا بالثورة الكوبية، ولكنهما وقّعا مع ستين مثقفا آخر عام 1971 على بيان في لوموند موجه إلى كاسترو يعبر عن الشعور «بالخزي والغضب» من اضطهاد المثقفين ويعلن التأييد للشاعر هربرتو باديلا بعد أن أكره على «النقد الذاتي» العلني المذل أي إعلان التوبة والندم على انتقاد النظام.
أما الروائي البرتغالي الفذ خوزي ساراماغو، الفائز بجائزة نوبل 1998، فقد قطع صداقته الطويلة مع كاسترو، وكتب عام 2003 أن الزعيم الكوبي «فقد ثقتي، وخّيب آمالي وخدع أحلامي».
ثانيا، يجدر التذكر أنه قد كان لكاسترو لدى مثقفي أوروبا اللاتينية (فرنسا، وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال) أهمية رمزية أكبر من أهمية ماوتسي تونغ، لأنه كان يجسد الصمود أمام الامبريالية الأمريكية التي كانت ممقوتة على أوسع نطاق، ولأنه كان يرمز للأمل في إقامة نظام اشتراكي محرر من الهمجية الاستبدادية التي تمكنت من روح النظامين السوفييتي والصيني. ولهذا لم تمنع خيبة الأمل، بعد 1971، من استمرار مئات المثقفين الفرنسيين في زيارة كوبا واتخاذ مواقف متعاطفة مع النظام. بل إنه لم يظهر بين مئات المقالات والمؤلفات التي نشروها آنذاك إلا كتابان نقديان!
ثالثا، قد يكون جاكوبو ماشوفر محقّا في إرجاع إعجاب المثقفين الفرنسيين، تحديدا، بالثورة الكوبية إلى ما كان فيها من ملامح شبه مع الثورة الفرنسية، من حيث الغلوّ في أعمال العنف العفوية وتصفية الحسابات والإعدامات اليومية. وهو يعتبر أن لوموند لعبت دورا مركزيا في تعميم التعاطف مع النظام لأن تغطية مبعوثها كلود جوليان لم تكن تتسم بالمسافة النقدية اللازمة من الرواية الرسمية للأحداث.
أما قصة إعجاب المثقفين الغربيين، وخصوصا الفرنسيين، بماوتسي تونغ، الذي تفوّق على ستالين وهتلر في عدد الضحايا (60 مليون نسمة)، فإنها قصة عجيبة حقا. إذ بلغ الأمر أن بعض المثقفين الصينيين الذين بترت أعضاؤهم تحت التعذيب تمكنوا من تهريب رسالة إلى سارتر وصفوه فيها بـ»فولتير هذا العصر» وناشدوه أن يقول شيئا ما لفضح جرائم الطاغية، فإذا به يجيب بالصمت المطبق ذاته الذي عامل به ضحايا الغولاغ السوفييتي.
ومع أن الكاتب البلجيكي سيمون ليس فضح عام 1971 مجازر «الثورة الثقافية»، فإن الفيلسوفة الإيطالية ماريا ـ أنطونييتا ماكيوكي نشرت في العام ذاته كتابا تقول فيه إن «الثورة الثقافية ستدشن ألف سنة من السعادة». أما رأيها في ماوتسي تونغ، فهو أنه «عبقري».
وكذلك كان رأي الشاعر الفرنسي لوي أراغون في ستالين: عبقري.
وتشمل قائمة المثقفين الفرنسيين المعجبين بماو كلاّ من رولان بارت، وفيليب سوليرز وجوليا كريستيفا. وعند وفاة ماو عام 1976 نزل أنصار سارتر، الذي كان آنذاك يدير جريدة «قضية الشعب»، إلى الشوارع يعلقون صوره الموشحة بلون الحداد.
ما هو التفسير؟ يجيب غي سورمان: إنه الافتتان بجماليات العنف الثوري، معطوفا على تقاليد النفاق الإيديولوجي (تصنّع الاهتمام بمصير العمال والفلاحين).
أما جورج ستاينر، فإنه يقول إنه طالما تدبّر هذه القضية الملغزة فلم يجد تفسيرا لانجذاب أرقى الفكر والفن نحو أسمج الحكم والظلم، بدءا من أفلاطون الذي سافر إلى صقلية ثلاث مرات حتى يتصل بطاغية سرقوسة، مرورا بفرويد الذي امتدح موسوليني، بلوغا إلى مارتن هايدغر الذي أقرّ النازية على عماها، فكان «أعظم المفكرين وأخسّ البشر».
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
ذلك شأن كل إنسان يَقصُر عن تَعقّل موازين الحق، فيعجز عن تصريف أحلام العدالة مع ضرورات الحرية.
دائما متالق سيدي مقالاتك في الصميم
تحياتي لك