ليس ناقداً من يشاء، وليس باحثاً من يريد ذلك، كما يقول المثل الفرنسي. أن يكون المرء ناقداً، أو باحثاً، يعني هذا ببساطة اتساع الرؤية الثقافية والحضارية وعدم الارتكان إلى المعارف التقليدية المتواضعة والمكتسبة. لا يكفي فقط أن يكون الإنسان مثقفاً محترفاً، ومالكاً لمخزون معرفي كيفما كانت قيمته وكثافته. ولا يكفي أيضاً أن يكون أستاذاً جامعياً لامتلاك صفة الناقد أو الباحث.
الجامعة شهادة يرتقي إليها كل ناجح في الدكتوراه أو في غيرها من الشهادات المؤهلة، ويمكن أن يكون بموجبها أستاذاً جامعياً مرموقاً ومحبوباً وناجحاً أيضاً، بالمعنى التعليمي والتربوي، لكن ليس شرطاً أن يكون ناقداً ممارساً أو باحثاً حاملاً لانشغال كبير من خلال مخبر محلي أو عالمي. الجامعات الفرنسية بعددها الكبير وقيمتها العالمية، وبجيوش جامعييها، والمدارس الكبرى والمرجعية كالمدرسة العليا للأساتذة ومدرسة الكوليج دو فرانس، لم تنجب إلا أسماء معدودة نقدية وفاعلة، من أمثال ماسينيون، رولان بارت، جيرار جنيت، فيليب هامون، جمال الدين بن الشيخ، وغيرهم من الباحثين، بينما ظل الباقون في مواقعهم كمدرسين لهم قيمتهم التربوية.
ما لا يفهمه الكثير من جامعيينا في العالم العربي هو أن الجامعة لا تنجب بالضرورة باحثين. فليس كل حاصل على الدكتوراه هو بالضرورة مالك لموهبة وقدرات الباحث. فالكثير من الأبحاث نجدها مذيلة بكلمة دكتور أو بروفيسور أو أكاديمي لا تقترح جديداً في المجال النقدي والمعرفي. بل وتكون أحيانا ضعيفة لا تفضي إلا إلى سلسلة من المقولات غير المدرَكة. النقد والبحث العلمي شيء آخر أكثر تعقيدا. النقد مؤسسة لا تخضع دوماً للشهادة أو لنقل إن الشهادة ليست مقياساً دائماً فيها.
الناقد الباحث أكبر من شهادة، هو قيمة مرجعية عالية، يكتب ويظل مصغياً إلى عصر يتحول داخليا بعنف، وإلى آلامه وتوتراته العميقة التي لا تكفي فيها الرؤى الانتقائية التي تتحكم عموما في نقدنا العربي، إلا باستثاءات، تؤكد على القاعدة ولا تلغيها. أن يكون المرء ناقداً هذا يعني ببساطة أن ينتصر للحقيقة العلمية، ويكون فوق الشللية المرضية المقيتة، حزبية كانت أو إيديولوجية.
أن يفترض أن الفن عموماً، والكتابة تحديداً ليست قسراً على مجموعة بشرية دون غيرها، وأن يفترض أيضاً إذا كان قومياً، أنه بإمكان الشيوعي الموهوب، أو الليبرالي المبدع أن يكتب نصاً مميزاً ومتيناً، وأن يفترض أيضاً إذا كان يسارياً، أنه بإمكان القومي المميز أو الإسلامي الموهوب أدبياً ان يكتب رواية تتخطى الكثير من الحواجز والمعوقات، وتكشف عن عمق المأساة الإنسانية. بمعنى أن لا يكون الحاجز الأيديولوجي وسيلة إقصائية.
نحتاج أحياناً إلى أن نعود إلى ألف باء الأشياء وإلى بعض الأفكار العادية بل وبعض المسلمات، لندرك أن الكثير من الممارسات النقدية تفتقر إلى هذه المسلمات البدئية. لم يكن سارتر بوجوديته وأفكاره الفلسفية العالية، شخصاً عادياً وهو يكتب عن ماهية الأدب ومفهوم الالتزام ويدخل في سجالية قاسية مع كامي وبعض مجايليه، أو حتى وهو يرفض جائزة نوبل، في عز الغطرسة البورجوازية أو الكولونيالية التي كانت تعيد تشكيل العالم وفق مصالحها، وجيرت كل شيء وفق ما يخدمها.
وليست أحداث باريس في 1968 إلا تجلياً لذلك. لم يكن بيير بورديو باحثاً اجتماعياً منشغلاً فقط بصيرورة النصوص والمؤسسات والسلط الرمزية التي تنشأ داخلها فقط، ولكنه كان قريباً من عصره عندما كتب عن الورثاء، وعن الجوع في العالم، وحاضر في كوليج دو فرانس عن الميديا والسينيما والتلفزيون. كما اهتم بالمنظومة التربوية وخضوعها لقوى غير مرئية وللعنف الرمزي. ولم يكن جاك دريدا أيضا يبحث عن المعنى في مجتمع فقد روحه وجدواه العميقة، وسطّح كل شيء، لكنه انتبه للتعبيرات الثقافية والادبية لتواترات الهوية.
ولم يكن رولان بارث مجرد ناقد عابر. كان علامة عصره التي فككت الرموز التي تستهلك كأنها شيء عادي وهي تستبطن في جوهرها المعارف المختزلة، فاشتغل في أغلب التجليات السيميائية للعصر. لامس الحياة ومجمل الرمزيات، من خلال اشتغاله على الصورة والأساطير والاشهار التي هي مظاهر وتجليات ليست ثمرة للصدفة أبداً. لا أقلل من نقادنا وباحثينا الكبار، على قلتهم، الذين يبذلون الجهود القاسية داخل مجتمعات الخيبة واللامعنى التي نتج عنها عدم اهتمام بالظواهر الفنية واللغوية والرمزية ومنها الادب. ويجهد هؤلاء أنفسهم في عالم لا ثقافي ومعادٍ للعقل والتنوير، ويحاولون خلق عالم موازٍ ومنظومة من الرموز يثبتون من خلالها فضاء جديدا هو في طور التكوين خارج المعادلات المستهلكة، وخارج نظام اليأس المستشري.
الناقد الباحث الذي نستشهد به اليوم كنموذج، منخرط في الحياة بقوة وحاضر فيها. يعيشها ويكتب عنها، ويقف أحياناً عند بوابات الجامعات والمعاهد العليا متضامناً مع الحركات الثقافية والاجتماعية والفكرية والنسوية والاستلاب ومشكلات الهوية والكولونيالية الجديدة وغيرها. تأتي كتاباته في المحصلة، مفعمة بالحياة والدينامية الثقافية والاجتماعية. لم يكن إدوارد سعيد في جهده النقدي، مهتماً فقط بتاريخ الاستشراق ونقده والكولونيالية بإفرازاتها الأدبية والثقافية، لكنه ظل منشغلاً بالمصائر البشرية بما في ذلك قضية فلسطين ومسألة الهوية والموسيقى وغيرها من الفنون التي تحفظ للإنسان حقه في النور والحياة.
لم يمنع الجهد الأكاديمي في السوربون، حول الشعرية العربية وحرية التخييل الديني والترجمة باحثاً مثل جمال الدين الشيخ، من أن يظل مصغياً لتوترات عصره حول مقتل الهويات والعنصرية والعداوات الاتنية والعرقية.
عندما تطرح إشكالية هشاشة النقد العربي؟ فهي تطرح من هذه الزاوية. أي كيف يعود الناقد الباحث إلى وظيفته الفعلية والأساسية التنويرية من خلال الجهد المعرفي بمختلف تجلياته وربطه بالحياة التي هي المجال الاختباري الأساسي لجدواه.
واسيني الأعرج
شكرآ ،التنوير ،ضد التعتيم ، العلم ،خصم للجهل ، الحقيقة ،تكشف الزيف والتضليل المراوغ، ولنا فيه ضحايا ومزورين.
بيئتنا طاردة ،للعقول الحرة ،ومقيدة للحريات العامة ،حتى اﻷكاديمية منها ،ومن ذكرت ،مثل الناقدان الباحثان ،إدوارد سعيد،
وجمال الدين الشيخ ،في السوربون،واﻷول في جامعة كولمبيا، هل كانا سيصلان إلى ما وصلا إليه من إبداع وتميز ،في الوطن?
كي يكون احدهم ناقدا او باحثا صحيحا يجب ان يكون حر التفكير وهذا ممنوع في مناهجنا, ـحياتي للقلة الاحرار.
الموضوع بصراحة جد مهم وخطيروقد لاماس الكاتب بعض الجوانب فقط من وجهة نظره، لان السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح : ماهو المطلوب من الناقد الباحث أو الباحث الناقد بالضبط ؟ او بصيغة اخرى ماهو نوع الانتاج الذي يجب أن يقدمه للجمهور؟ أما ان يتحول الى صانع ومنتج ومشارك فهذا مجرد انتحار لسبب بسيط أن هذا هذا الباحث لايمكنه ان يكون متواجدا في كل الاحداث حتى يكون مؤثرا وصانعا للقيم . كما ان الكاتب في عنوانه تحدث عن هشاشة النقد العربي ولم يقدم لنا أسباب هذه الهشاشة ولا مظاهرها وانما اكتفى بالحديث عن نمادج من كتاب فرنسيين اعتبرهن نقاد باحثين وهنا سقط الكاتب في الاختزالية – اختزال نماذج – حسب رؤيته لكن لين النماذج الاخرى كمشيل فوكوا وبورخيس وغيرهم من النقاد الباحثين الذين أسسوا مدارس أدبية وفنية بارزة. أما فيما يخص النقد العربي فلم يذكر الكاتب شيئا …ربما تكوينه الفرنكفوني كان حاجزا منيعا للتعرف على بني جلدته من النقاد، لا اريد أن اتهم الكاتب بعقدة الانبهار بالاخر ولكن تبقى هذه هي الحقيقة المرة مع الاسف الشديد.