أعادت الحوادث الإرهابية الأخيرة في اسبانيا إلى الواجهة خريطة الشبكات والخلايا المُنتشرة في أوروبا الغربية، والمخاطر التي يمكن أن تُشكلها على المجتمعات المحلية. فمع الضربات التي تلقاها تنظيم «الدولة» في كل من العراق وسوريا، تبدو أوروبا كما لو أنها الجبهة المقبلة التي سينقل إليها التنظيم «فتوحاته». وبعد التفجيرات الأخيرة في اسبانيا، ينبغي توقُعُ مزيد من العمليات في بلدان مثل بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وسواها. وتتركز مخاوف العواصم الغربية على «العائدين من العراق وسوريا» الذين تلقوا تكوينا أيديولوجيا وعسكريا يُؤهلهم لتنفيذ عمليات متى عادوا إلى مجتمعاتهم.
وحسب الباحث ماثيو غيدار المتخصص في شؤون الحركات الأصولية، حاولت اسبانيا النأي بنفسها عن المشاركة في الحرب الدولية على تنظيم «الدولة» طيلة السنوات الماضية، ورفضت عروضا من حلفائها للانضمام إلى عمليات عسكرية في كل من ليبيا ومالي. وعزا غيدار تحفظ مدريد إلى تعرُضها لاعتداءات واسعة في آذار (مارس) 2004 تمثلت في عشرة تفجيرات في قطارات الضواحي في مدريد، ما أدى إلى مقتل 191 شخصا. إلا أن اسبانيا عادت وانضمت أخيرا إلى التحالف الدولي في سوريا والعراق استجابة لضغوط قوية من باريس.
خمسة آلاف أوروبي
يُقدر عدد الأوروبيين الذين التحقوا بصفوف التنظيم في سوريا والعراق بأكثر من خمسة آلاف عنصر بين 2011 و2016. وتوقع تقرير أوروبي أن يعود ما بين 1200 و3000 عنصر منهم إلى بلدانهم الأصلية، عودة تدريجية، ما يشكل خطرا مؤكدا على أمنها، فهؤلاء تدربوا على استخدام السلاح ووضع القنابل الموقوتة وتفخيخ الحافلات والقطارات.
وتبدو فرنسا البلد الأكثر عرضة لخطر «العائدين من سوريا والعراق»، ولذلك قررت اعتقال أي عائد من بُؤر التوتر، إن كان رجلا أم امرأة أم فتى. وقدرت إحصاءات رسمية فرنسية أعداد المقيمين حاليا في سوريا والعراق من حاملي الجنسية الفرنسية (أو الآتين من فرنسا) بنحو 700 عنصر، بالإضافة لأقل من 300 عنصر آخرين لقوا حتفهم في جبهات القتال. وأحصت المراكز الحدودية الفرنسية 223 عائدا من ساحات الحرب، بينهم ثمانية قُصَر، أحيلوا جميعا إلى القضاء. ولا ننسى أن عبد الحميد أبا عود، أحد منفذي عملية 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 في باريس، هو من ضمن هؤلاء العائدين، بعدما تدرب في سوريا.
كانت استراتيجيا تنظيم «الدولة» في البدء تُركز على التمدُد الجغرافي في كل من العراق وسوريا، وقتال أعدائها المباشرين أي الدولة العراقية والقوى الشيعية والأكراد. وهنا برز أحد مظاهر الاختلاف الكبرى مع «القاعدة» التي كان عناصرها يُفضلون تنفيذ عمليات في الخارج تُحدث صدى إعلاميا قويا، أسوة باعتداءات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001. غير أن التنظيم غير استراتيجيته وتحول نحو قيادة عمليات خارج الأراضي السورية والعراقية، فتبنى تفجيرات 15 كانون الثاني (يناير) 2015 في باريس، ثم الاعتداءات التي استهدفت سياحا في متحف باردو في تونس وفندق إمبريال في مدينة سوسة، ثم في ملهى في اسطنبول، إضافة إلى تفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء، وغيرها من العمليات المعروفة.
… وستون جنسية
وحسب خبراء انضم إلى تنظيم الدولة «مُتطوعون» من أكثر من ستين جنسية في العراق وسوريا، وبعضهم أمضى سنوات هناك وتدرب على القتال وإعداد المتفجرات. وكان عدد المُلتحقين بالتنظيم يتراوح بين 20 و50 عنصرا جديدا يوميا، إلا أن بعض الخبراء يؤكدون أنه وصل قبل ذلك إلى مئة عنصر جديد في اليوم. وعلى الرغم من جميع الإجراءات الوقائية التي اتخذتها الدول الغربية، استطاع عناصر التنظيم التسلل إلى تلك البلدان وتنفيذ اعتداءات أوقع كل واحد منها عشرات القتلى ومئات الجرحى.
كانت القاعدة الذهبية لدى الدبلوماسية الفرنسية قائمة على ترك قوات بشار الأسد وقوات «داعش» تتقاتل من أجل إضعاف الطرفين، غير أنها اكتشفت أن هذه السياسة سمحت بظهور «بؤر جهادية» يتدرب فيها «متطوعون فرنسيون» استعدادا لتنفيذ اعتداءات فوق الأراضي الفرنسية. واعتبارا من آب (أغسطس) 2015 ظهر تقرير جديد صادرٌ عن «المديرية العامة للأمن الداخلي» الفرنسي أكد أن شخصا يُدعى عبد الحميد أبا عود (الذي سيُنفذ اعتداءات في باريس لاحقا) يُخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في فرنسا انطلاقا من سوريا.
وبناء على ذلك المُتغير اتجهت السياسة العسكرية الفرنسية نحو قصف مراكز التدريب التابعة للجماعات المتشددة في سوريا. إلا أن أبا عود وعناصر أخرى كانت قد غادرت سوريا في تلك المرحلة إلى أوروبا عبر تركيا. ولم تتفطن المخابرات الفرنسية لعودة كل من اسماعيل عمر مصطفاي وسامي عميمور وفؤاد محمد عقاد من سوريا إلى فرنسا، حيث عاشوا بهويات مزورة وترددوا على الأوساط الأصولية، وخططوا للاعتداء على مسرح «باتكلان» في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 الذي أودى بحياة 90 شخصا، بالإضافة لعشرات الجرحى. وثبت لاحقا أن الثلاثي مصطفاي وعميمور وعقاد أقاموا في سوريا في 2013 وعادوا إليها في 2015 من دون أن تنتبه أجهزة الأمن الفرنسية لتنقلاتهم.
نساء وقاصرون
بالإضافة للمقاتلين المُجندين في بؤر الصراع، ثمة أفراد أسرهم، وخاصة الأطفال، الذين ولدوا هناك أو ذهبوا إليها صغارا. واستقبلت دائرة بلدية بوبيني، وهي حي شعبي في ضواحي باريس، خمس عائلات تضُمُ 19 طفلا تُراوح سنهم بين ثلاثة أشهر و16 سنة، وغالبيتهم مرفوقون بأمهاتهم فقط، لأن آباءهم إما قُتلوا أو فضلوا البقاء هناك. لا بل إن بعضهم أبصروا النور في طريق العودة، إذ أن الحوامل يُسارعن إلى العودة لوضع مواليدهن في مشفى فرنسي، حتى لو اضطررن لدفع عشرة آلاف يورو للمهربين. وكان وزير الداخلية الفرنسي الأسبق برنار كازنوف رأس اجتماعا في وقت سابق من هذا العام، لدرس أوضاع 460 من القاصرين المتحدرين من أصول فرنسية في المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم «الدولة» في سوريا. ولم يُكشف النقاب عن نتائج الاجتماع، ولكن تم تكليف «الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي» بمتابعة تنفيذها.
وإذا كانت وسائل الرقابة الأمنية الفرنسية تُتابع تحركات 700 جهادي في سوريا (أو من تبقى منهم هناك) فإن عليها في المقابل أن تُراقب 10.500 متشدد يُقيمون على الأراضي الفرنسية، وهم من المُتشبعين بالفكر الراديكالي التكفيري، الذين يقتنصون اللحظة المناسبة لتنفيذ عمليات. ولا تُمكن وسائل الرقابة المُتاحة حاليا، سوى من مراقبة أربعين شخصا فقط في وقت واحد، وعلى مدى أربع وعشرين ساعة. وبالرغم من الاعتمادات الإضافية التي خصصتها السلطات الفرنسية لتعزيز تلك الأجهزة الرقابية، فإنها ما زالت أبعد ما تكون عن تأمين رقابة دنيا لآلاف الانتحاريين المحتملين.
اختراق سلفي
يتزامن ذلك مع تقارير أمنية فرنسية تُحذر من اختراق أصولي ذي طابع سلفي للأحياء السكنية في أنحاء مختلفة من التراب الفرنسي، معطوفا على انتشار التدين، خصوصا في المناطق التي تسكنها غالبية مسلمة (مغاربيون وباكستانيون). وأشارت التقارير إلى أن السلفيين «يستخدمون طرقا مُبتكرة تندرج في إطار استراتيجيات محلية» ما يمكن أن يُشكل حاضنة اجتماعية للعائدين من سوريا والعراق. وأشارت التقارير إلى أن بعض الدعاة السلفيين يمارسون «ضغوطا» على أفراد الأسر، وخاصة على السيدات، لتوسعة قاعدة التنظيم في الأوساط الشعبية، مع بروز ظاهرة جديدة تتمثل بالسعي للمشاركة في نشاط الهيئات التمثيلية في الأحياء.
وإزاء تمدُد ظاهرة التشدد الديني وانتشار التطرف تبلور في العقل الجمعي الفرنسي منهجان متناقضان لعلاج الظاهرة، الأول يمكن اعتباره استئصاليا والثاني احتوائيا. ومنذ سنة 2002 ألف الكاتب جورج بن سوسان مع طائفة من زملائه كتابا حمل عنوانا مُثقلا بالدلالات هو «الأراضي المفقودة من الجمهورية»، ويقصد بها الأحياء والمناطق السكنية، التي باتت تقطنها غالبية من المسلمين أو المنحدرين من بلدان إسلامية. وأردف ذلك الكتاب الأول بثان أصدره هذه السنة بعنوان «فرنسا الخانعة» (في مقابل شعار «فرنسا الأبية») حيث اعتبر أن الأوضاع زادت تفاقما وتعقيدا بعد خمس عشرة سنة. وعاب مثقفون فرنسيون على الرئيس السابق فرنسوا أولاند أنه كان يُبشر بأن الديموقراطية «ستنتصر في الحرب على الإرهاب في نهاية المطاف» من دون تقديم خريطة طريق تُؤمن الوصول إلى ذلك الهدف بوضوح.
المُصدر الأول
لا يختلف موقع بلجيكا في هذا المضمار عن حال فرنسا، فبلجيكا هي البلد الأوروبي الأول في «تصدير» المقاتلين الأجانب، قياسا على عدد السكان، بواقع 614 مقاتلا بين 2013 و2014 فقط، حسب المُديرية العامة للأجانب. وتأتي فرنسا في الرتبة الثانية.
غير أن المخابرات البلجيكية متهمة بغض الطرف عن سفر المقاتلين إلى «أرض الخلافة» بدافع الرغبة في التخلص منهم. ويستدلُ موجهو تلك الاتهامات بأن المخابرات البلجيكية كانت تمتلك معلومات دقيقة عن مكان إقامة صلاح عبد السلام أحد منفذي الاعتداء على مسرح «باتكلان» في باريس، ولم تعتقله إلا بعد مئة يوم بضغط من السلطات الفرنسية. وكان الشـقيـــقان ابراهـــيم وصــلاح عبد السلام يديران حانة في بروكسيل، أقفلتها السلطات قبل ثمانية أيام من اعتداءات باريس، بعد اتهامهما بترويج المخدرات.
وكشفت التحقيقات التي أجريت في أعقاب العمليات الإرهابية في باريس السنة الماضية، النقاب عن عمليات تجنيد واسعة لمجرمين في السجون البلجيكية، من أجل ضمهم إلى تنظيم «الدولة». وفي بريطانيا أيضا تشكل الأحياء الفقيرة خزانا لاستقطاب الشباب الذي يُعاني من التهميش والازدراء.
ومع أن اسبانيا استطاعت إحباط الكثير من العمليات، بعد حوادث تفجير قطارات الضواحي في مدريد العام 2004 فإنها تشكل حسب الخبراء إحدى نقاط الارتكاز القوية لتنظيم «الدولة» في غرب أوروبا، وخاصة في اقليم كاتالونيا، حيث يعود اعتقال الخلايا الأولى لـ«الجماعة الإسلامية المقاتلة» (الجزائرية) إلى العام 1995. وفي فترة لاحقة كشفت السلطات الاسبانية عن خلية تابعة لتنظيم «القاعدة» قالت إن عناصرها كانوا يُخططون لسلسلة من العمليات في أعقاب تفجيرات مترو باريس. واكتوى الإسبان بنار الاعتداءات الإرهابية في 11 آذار (مارس) 2004 بعد تفجير عشرة من قطارات الضواحي في مدريد، ما أسفر عن قتل 191 شخصا وجرح أكثر من 1500 آخرين.
وتُعتبر اسبانيا، التي بقيت في منأى عن التفجيرات وعمليات الإرهاب منذ ذلك التاريخ، الأقل «إنتاجا» للانتحاريين، إلا أنها ظلت ملاذا للجماعات المتشددة منذ تسعينيات القرن الماضي. وإذا ما عرضنا لائحة الجنسيات الغربية التي انخرطت في القتال إلى جانب تنظيم «الدولة» في كل من العراق وسوريا، نلحظ أن عدد الاسبان ضئيل قياسا على الفرنسيين والبريطانيين والبلجيكيين مثلا.
الاستثناء السويسري
وتبدو سويسرا البلد الأوروبي الأقل عُرضة للمخاطر التي قد يطرحها مجيء «العائدين من سوريا» إليها. ونصحت الباحثة في معهد العلوم التطبيقية في زيوريخ مريام إيسر دافوليو باللجوء إلى التناصح مع الشباب المتأثرين بالفكر الجهادي وتأطيرهم في المساجد. ودافوليو مسؤولة حاليا عن تنسيق «دراسة استكشافية» عن ميول الشباب السويسري إلى التطرف. وأفادت بوجود 70 حالة من الشباب المتشددين، الذين سافروا إلى سوريا، وتجري حاليا تحقيقات قضائية في شأن عشرين منهم. ويعتقد السويسريون أن الاعتداءات التي يتم تنفيذها في فرنسا وألمانيا واسبانيا ترفع من مخاطر تعرُض بلدهم إلى اعتداءات. ورأى الباحث أولي ماورر أن الاعتداءات الإرهابية في سويسرا كانت أمرا لا يمكن تخيُله في الماضي، إلا أنه بات واردا اليوم. وأكد أن الخطر يأتي من «الذئاب المنفردة» التي تحمل فكرا متماهيا مع الفكر الذي يُروجُ له تنظيم «الدولة» عبر الانترنت. وفيما يميل بعض الباحثين السويسريين إلى الاعتقاد أن المساجد هي البُؤر التي تبثُ التشدد بين الشباب، أثبتت أبحاث ميدانية أن التشدد الفكري يتسرب من خلال شبكة الانترنت، وأن المساجد تلعب دور الكابح لغلواء التطرف والعنف لدى الشباب، وليس العكس. ويمكن القول إن الأوضاع في سويسرا تختلف عن مثيلتها في فرنسا وبلدان أخرى، حيث تفصل هُوة عميقة بين الأحياء الموسرة والهامشية التي يسكنها المهاجرون.
وتتركز بؤرة المشاكل الاجتماعية في سويسرا في الكانتونات الحدودية التي يستقرُ فيها المهاجرون وطالبو اللجوء الوافدون على البلد، والذين يبقون بلا فرص عمل، فيشعرون بالتهميش وينزلقون نحو اعتناق رؤى متشددة. وحسب ميريام إيسر دافوليو فإن الوسيلة الوحيدة لتفادي سفرهم إلى سوريا وانضمامهم إلى تنظيم «الدولة» تكمن في إدماجهم تدريجيا في المجتمع المحلي. وهي تعتقد أن الإجراءات الوقائية التي اتخذتها أخيرا الحكومة الفدرالية السويسرية، ومنها تقوية أجهزة المخابرات وتطوير التشريعات المتعلقة بالرقابة وتشديد مراقبة المواقع الاجتماعية قد لا تكون كافية، وتعتبر أن دعم الأسر لأبنائها المُنجذبين إلى الأفكار المتطرفة والحوار معهم، يشكلان عنصرين مهمين في النأي بهم عن طريق العنف. لكن للجمعيات الإسلامية والمثقفين المنحدرين من أصول عربية وإسلامية دورا تثقيفيا وتوعويا حاسما يمكن أن يلعبوه في مكافحة الفكر المتشدد وتغذية عقول الشباب والفتيان بقيم التسامح والحوار والوسطية.
رشيد خشانة
هذه بضاعتكم ردت إليكم. الأوروبيين ارادو ضرب عصفورين بحجر واحد. السماح للمتشددين بعبور تركيا من بلدانهم الي سوريا امام أعين الجميع لإسقاط النظام والتخلص منهم بعد أن ينفدو المهمة فلا حذث هذا ولا ذاك ودائما يدفع الأبرياء الثمن .