هل أنتجت اللاسامية الصهيونية؟

مسرحية «تاجر البندقية» هي إحدى أشهر مسرحيات الكاتب الإنكليزي الأشهر وليام شكسبير، التي كتبها في بداية الثلاثين من عمره. يحوي العمل الكثير من الأفكار والقصص الصغيرة، إلا أن عقدة النص الأساسية كانت تلك المتعلقة باليهودي المرابي شايلوك، الذي وضع شرطاً غريباً لضمان سداد أمواله، وهو أن يأخذ رطلاً من لحم أنطونيو الحي مقابل أي تأخير في السداد، وهو ما أصر عليه فعلاً حينما تأخر السداد، حيث رفض أي تعويض مادي آخر سوى ما تم الاتفاق عليه.
بدون الخوض في تفاصيل هذا العمل الكلاسيكي المكرّس بشدة لانتقاد السلوك اليهودي الجشع، الذي يأخذ فيه دور البطولة السالبة والشخصية المحورية، شايلوك اليهودي، صاحب العبارات المقيتة التي يصر فيها على الانتقام من المسيحيين، لا شك أنها لم تكن لترى النور لولا أنها جاءت ضمن عصر كان يؤمن بما فيها من إسقاطات. عصر كان معظم الأوروبيين يعتبرون فيه أن الكراهية والحقد واللإنسانية ليست سوى سماتٍ أصيلة في الشخصية اليهودية. هكذا، وسواء كنا نتحدث عن مدينة البندقية، حيث كانت تدور الأحداث، أو بلاد الإنكليز حيث ولد شكسبير، فإننا نبقى في أحد العصور السوداء بالنسبة لأصحاب الديانة اليهودية. لنتذكر أن البندقية كانت آنذاك مجتمعاً مبنياً على احتقار العبيد وعلى العنصرية، أما بريطانيا فقد بلغ بها الأمر حد منع إقامة اليهود على أراضيها.
اليوم، وبعد أربعة قرون على نشر هذه المسرحية، يبدو الواقع مختلفاً، ولا شك أن شكسبير لو كان معاصراً لنا اليوم لتردد ألف مرة قبل أن يفكر بنشر رواية قد تصادر وتُرجَم ببساطة تحت طائلة قوانين «معاداة السامية» التي لم تعد تجرّم فقط الإساءة إلى اليهود، ولكنها تجرّم كذلك من يشكك في تعرضهم لأكبر مذبحة في التاريخ الحديث.
كان عصر شكسبير مختلفاً، ويمكننا أن نقول هنا إن مسرحيته التي تعمل على تأكيد الصورة المسيئة لعموم اليهود لم تكن وحيدة، بل كان معها الكثير من التراث الشفاهي والأدبي الذي يبدو للقارئ أنها استندت إليه وهو تراث ينفّر من اليهود ويظهرهم بمظهر الجشع والمتعطش للدماء. يمكن هنا الاستشهاد بكثير من الأعمال كقصة «الأبله» الإيطالية القديمة، ومسرحية كرستوفر مارلو «يهودي مالطا» التي سبقت عمل شكسبير بسنوات، والتي يذهب البعض إلى أن الكاتب الإنكليزي قد تأثر بها، خاصة أنها سبقته لمعالجة موضوع الصراع الديني والتحذير من اليهود.
مع تبدل الحال والمزاج الكوني حول المسألة اليهودية، لم يستطع العالم حجب مسرحية شكسبير تلك، ولا حجب كل ذلك التراث المتعلق بازدراء اليهود، بل ما حدث كان، على العكس من ذلك، الاستفادة من ذلك التراث، من أجل ترسيخ الظلم الواقع على اليهود، حتى وصل الأمر حد اللعب بجوهر مسرحية شكسبير وحواراته، من أجل إظهار شايلوك بمظهر الضحية التي توحّشت نتيجة لما عانته خلال حياتها من ازدراء واحتقار وعنصرية.
هكذا تصبح جميع أفعال هذه الشخصية مبررة، خاصة إذا تمت المبالغة في إظهار المسيحيين الذين يمثلهم أنطونيو الرافض للربا وغيره من أبطال المسرحية بمظهر عنصري مقيت، بشكل لا يجعلهم يكرهون شايلوك لأفعاله وإنما لمجرد أصله اليهودي.
هل يمكن أن يكون هذا المنطق مقنعاً؟ السؤال مثار جدل، خاصة حين نربطه بأسئلة معاصرة كالقضية الفلسطينية وجرائم الصهيونية على الأرض، فهل يمكن إيجاد العذر للمستوطنين لأنهم كانوا مجرد ضحايا بائسة لثقافة أوروبية لاسامية ومعادية لهم، تماماً مثل شايلوك الذي لم يكن متوحشاً بلا قلب وإنما مجرد ضحية؟ لكن، وفي هذه الحالة، ما ذنب الفلسطينيين؟ وهل يمكن لمن يفكرون بهذا المنطق إيجاد العذر للحركات المقاومة التي أزهرت على الأرض نتيجة للأعمال الوحشية التي قام بها الاحتلال، الذي حاول ويحاول دائماً، سرقة أرضهم وهويتهم، أم أنه سيتم الاكتفاء بوصف كل عمل مقاوم بالإرهاب؟
سوف نستخدم هنا مصطلح «اللاسامية» بحذر، رغم قناعتنا بأنه مصطلح غير دقيق لنتساءل: هل يمكن أن تكون «اللاسامية» أو اضطهاد اليهود قد أدت إلى نشوء الصهيونية بشكلها الذي ظهرت فيه في القرن العشرين؟ هذا افتراض شائع، لكن هناك افتراضاً آخر لا يمكن التقليل من شأنه، وهو أن تكون الفكرة الصهيونية بمعناها الكبير والمتأسس حول عقيدة جمع شتات اليهود ضمن وطن واحد، هي الأسبق، وأن تكون فقط قد استفادت من ظاهرة استفحال الكراهية لليهود من أجل إقناعهم بفكرتها الأسطورية المحورية، المبنية على الخروج من الأوطان التي ليست لهم والتجمع في نطاق وطن يهودي واحد.
مع تزايد أعمال الكراهية سوف تتحول هذه الفكرة التي بدأت منبوذة من غالب اليهود، الذين كانوا يفضّلون البقاء حيث هم إلى خيار لا بديل عنه، ليس فقط للمؤمنين الذين يؤمنون بالتفاسير التي وضعت لهم حول أرض الميعاد، ولكن لعامة اليهود من الذين ستوفر لهم هذه الفكرة، وبغض النظر عن صدقيتها، ملاذاً اقتصادياً ووضعاً مادياً مريحاً.
هناك الكثير من الأدلة التي تدلّل على افتقار الفكرة الصهيونية، حتى قبل أن تصبح حركة، إلى الشعبية ومنها ما يحكيه مؤسسوها أنفسهم عن الصعوبات التي واجهتهم في سبيل إقناع عامة اليهود بها كخيارٍ استراتيجي لهم. من ذلك منع اليهود لثيودور هرتزل من إقامة مؤتمره الأول في مدينة ميونيخ الألمانية، ليضطر إلى إقامته في مدينة بازل السويسرية. ومن ذلك أيضاً ظهور مجموعة من الحركات اليهودية المناوئة التي وظفت نفسها لمناهضة الصهيونية وبيان خطرها كمجموعة «البوند» وغيرها من الجماعات التي جرفها التاريخ وسيل الأحداث.
اليوم يتفق معظم الباحثين المحايدين على أن الحركة الصهيونية المتطرفة قد استفادت، وما زالت تستفيد، من الظلم الذي وقع على عامة اليهود في أوروبا، لتوظيفه ضمن مشروعها الذي لا يقل عنفاً وعنصرية. وكأن الواقع يؤكد مقولة ثيودور هرتزل ونبوءته التي أعلنها وهو يدشّن حركته: «اللاساميون سيغدون أقرب أصدقاء لنا وستغدو الدول اللاسامية حليفتنا».
في الأسابيع الماضية، وبمناسبة مرور مئة عام على وعد بلفور، نسجت القصائد ودبّجت المقالات في آرثر بلفور صاحب الوعد الشهير لليهود بالتمكن من فلسطين. المفارقة التي تخبرنا بها الشهادات التاريخية هي أن المسؤولين البريطانيين، وغيرهم من الأوروبيين، لم يكونوا بصدد دعم المشروع الصهيوني حباً في اليهود أو إيماناً بقضيتهم كما كانوا يدّعون، بل على العكس كان ذلك الدعم مبنياً بالأساس على اللاسامية وعلى الرغبة العميقة في التخلص منهم، خاصة وقف مساعيهم للهجرة إلى بريطانيا عبر إيجاد وطن بديل لهم يمكنه احتمالهم.
كاتب سوداني

هل أنتجت اللاسامية الصهيونية؟

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    لقد ظهرت الصهيونية الحديثة في اخريات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين في الوقت الذي ازدهرت فيه الديموقراطية و مفاهيم حرية و حقوق الانسان و خفت حدة التمييز العنصري و اللاسامية ضد اليهود سواء في اوروبا و روسيا التي صارت شيوعية. و ماكان لهذه الحركة ان تنشأ و لا ان تزدهر الا لكونها جزءا من المخطط الغربي للسيطرة على الشرق مع اقتراب انهيار الدولة العثمانية.
    الصهيونية اليهودية كحرة دينية تخدم تماما فكر الصهيونية المسيحية التي تؤمن بضرورة عودة اليهود الى الاراضي المقدسة تمهيدا لعودة المسيح و معركة هرمجدون الكبرى. و الصهيونية المسيحية اكبر و اقدم بكثير من الصهيونية اليهودية و قد ظهرت بصور مختلفة منذ قرون و خاصة في بريطانيا و المانيا ثم امريكا. و الحقيقة ان الصهيونية المسيحية كانت و ما زالت ام و اب الصهيونية اليهودية و سندها الرئيسي.
    ويجب الملاحظة ان معظم اليهود كانوا ضد انشاء الحركة الصهيونية اليهودية و فكرة العودة الى فلسطين في وقتها لتضارب ذلك مع مصالحهم.
    الخلاصة ان الحركة الصهيونية ما كانت لتنجح الا لكونها جزءا من المخطط الاستعماري الغربي و كونها اداة للفكر الصهيوني المسيحي يعني توافق ثلاثي

إشترك في قائمتنا البريدية