هل الثالثة ثابتة؟

حجم الخط
0

بات السوريون، بعد الخيبات الكثيرة المتكررة على مدى أربع سنوات ونيف من ثورتهم التراجيدية، يخشون التفاؤل، وهم محقون في ذلك. ففي صيف العام 2011، اجتمعت كل المؤشرات الميدانية والسياسية، المحلية والاقليمية والدولية، لتبشرهم بقرب انتصار ثورتهم السلمية آنذاك، وطي صفحة نظام جثم على صدورهم ثقيلاً لا يطاق، لأكثر من جيل، وانتهى إلى حرب مفتوحة على الشعب والبلد، بدلاً من أن يفهم النظام أن زمانه انتهى بغير رجعة منذ أول صرخة حرية أطلقتها حناجر السوريين، فيرحل غير مأسوف عليه، كسابقيه من أنظمة فاسدة تعفنت، على مدى عقود الحكم المديد، في تونس ومصر وليبيا واليمن.
ولكن كان للقوى المتضررة من التغيير العربي رأي آخر. حين قال حكام الأنظمة المترنحة إن «مصر ليست تونس» أو «ليبيا ليست تونس ومصر» و»اليمن ليس تونس ومصر وليبيا» سخر منهم نشطاء الثورات العربية الشباب، ونزلوا إلى الشوارع ليثبتوا العكس، وقد أثبتوه فعلاً إلى حد كبير، أو إلى حين. أما بشار الأسد فقد فضل مخاطبة الرأي العام الأمريكي عبر صحيفة وول ستريت جورنال، في شهر كانون الثاني 2011، ليبلغ «ذوي الشأن» في واشنطن أن «الشعب في سوريا على مزاج واحد ممانع مع نظامه» الأمر الذي يبعده عن الثورة عليه بهدف إسقاطه، بخلاف الأنظمة الساقطة التي كانت محسوبة على «معسكر الاعتدال» المقرب من الغرب.
بعد مرور سنوات من الدم النازف والخراب العميم، سنفهم أن ما قصده جزار دمشق بـ»الشعب» إنما هو ذلك القسم من السكان الذي ما زال يتمتع بدعمه ويضحي بعشرات الآلاف من شبانه على مذبح بقائه في السلطة، ليقول في كل مقابلة صحافية مع الإعلام الغربي الذي يأتيه إلى دمشق: «لولا الدعم الشعبي الذي أتمتع به لما تمكنتُ من البقاء في السلطة!». وهو كلام صحيح، بشرط أن نفهم ما يعنيه بكلمة «الشعب». وصحيح أيضاً أن هذا القسم من السكان الذي رأى في سائر السوريين المنتفضين لحريتهم وكرامتهم خطراً على «دولته» فنعتهم بالظلامية والتكفيرية والطائفية والإرهاب، هو على مزاج واحد ممانع مع نظامه، فقاتل أبناؤهم بشراسة، كتفاً إلى كتف مع ميليشيات شيعية لبنانية وعراقية وأفغانية، كما لم يقاتلوا يوماً «العدو الإسرائيلي أو الامبريالية الأمريكية». فقد عرفنا، مع مرور الزمن أيضاً، من أبرز الناطقين باسم «المحور الممانع» حسن نصر الله مثلاً، أن هذا المحور متطابق مع المذهبية الشيعية، مقابل صفتي التكفير والإرهاب الملتصقتين بالمذهبية السنية.
وهكذا تم تطييف الثورة، إضافة إلى تسليحها الحتمي في مواجهة القناصة وسكاكين الشبيحة وأقبية المخابرات الفظيعة وكل صنوف الأسلحة الفتاكة، فأصبحت ثورة سنية تكفيرية إرهابية عميلة للامبريالية وإسرائيل، كما يزعم الإعلام الممانع، ضد «دولة ممانعة وعلمانية» يقودها، للمفارقة، ولي إيراني فقيه!
كانت المحطة الثانية للتفاؤل، صيف العام 2012، الذي ابتدأ بمؤتمر جنيف الذي تبنت فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وثيقة ملتبسة حول المشكلة السورية، خلاصتها الأهم تشكيل هيئة حكم انتقالية تضم النظام والمعارضة، تنهي الحرب وتطوي صفحة تفرد النظام بمصير البلاد، تمهيداً لإرساء نظام سياسي جديد ديموقراطي تعددي علماني. وفي الأيام والأسابيع التالية على إقرار هذه الوثيقة التي باتت تسمى «جنيف 1» تلقى النظام خسائر عسكرية كبيرة كان من شأنها خلق توازن قوى يتيح فرض تطبيق تسوية جنيف 1.
لكن تضارب الأجندات الاقليمية والدولية في الصراع الداخلي، أدى إلى انتكاسات متتالية سياسية وعسكرية، أعادت ترميم قوة النظام المتهاوي من خلال دخول حزب الله الطائفي ذي الولاء الإيراني حلبة الصراع لمصلحة النظام، مقابل انقطاع الدعم الشحيح أصلاً للجيش الحر. وأصبح هذا الأخير يتآكل لمصلحة قوى التطرف الجهادية التي تدفقت إلى سوريا وصولاً إلى إعلان دولتها الإسلامية على أراض شاسعة في العراق وسوريا. كما ضعف التأثير الهزيل أصلاً للمعارضة السياسية على مجريات الأمور بفعل التجاذبات الاقليمية داخل بنيتها.
اليوم، يبدو المشهد السوري على عتبة تغيرات كبيرة لم تخف علاماتها على جميع المراقبين. إقليمياً، تم طي صفحة الخلاف بين السعودية والإمارات من جهة، وقطر وتركيا من جهة أخرى، وتشكل محور جديد متماسك لداعمي الثورة السورية من السعودية وقطر وتركيا، يعمل بأجندة موحدة، وقادر على إطلاق مبادرات هجومية رأينا بدايتها مع «عاصفة الحزم» في اليمن لكسر شوكة تحالف الحوثي – صالح المدعوم إيرانياً. وميدانياً، رأينا هزائم قوات النظام الكيماوي المتتالية في شمال البلاد وجنوبها، إضافة إلى اهتراء بنيته الأمنية من خلال تصفيات داخلية، كما في حالة رستم غزالة، وعاد البحث عن مبادرات سياسية في المحافل الاقليمية والدولية، من مؤتمرات موسكو إلى مشاورات جنيف بإدارة المبعوث الأممي دي ميستورا إلى مشاورات بعض المعارضة في القاهرة.
واليوم، تأتي دعوة المعارضة السورية إلى الاجتماع في الرياض، على لسان أمير قطر، للتباحث حول «مرحلة ما بعد الأسد» إيذاناً بتبدل نوعي في تناول المسألة السورية. فهذا يعني أن مرحلة التردد والاستنقاع والتجاذبات الداخلية بين حلفاء الثورة قد انتهت، وبدأت مرحلة فرض الحل السياسي على النظام بالقوة. وهو حل يبدأ بترحيل رأس النظام على الأقل شرطاً للتفاوض على هيئة الحكم الانتقالية وفقاً لوثيقة جنيف 1. الخيبات المتلاحقة علمت السوريين ألا يفرحوا قبل الأوان. لنرى ما ستأتي به الأسابيع المقبلة التي تبدو حاسمة.

٭ كاتب سوري

بكر صدقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية