نواكشوط ـ «القدس العربي»: فوجئ متابعو ملف الرق في موريتانيا بتحريك جديد للملف أعاد الحديث عن ظاهرة العبودية إلى الواجهة.
وتم هذا التحريك عبر حدثين أولهما التقرير الذي أصدرته للتو كل من المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، والمنظمة الدولية لمناهضة الرق، ومنظمة الأمم والشعوب غير الممثلة، وجمعية الدفاع عن الشعوب المهددة بالإنقراض، وذلك بتمويل من صندوق الحرية وصندوق الأمم المتحدة الانمائي للتبرعات الخاص بأشكال الرق المعاصرة.
وقد حمل هذا التقرير عنوانا مثيرا هو «إنفاذ تشريعات الرق في موريتانيا: الفشل المستمر لنظام العدالة في الوقاية والحماية والمعاقبة».
أما الحدث الثاني فهو رسالة تظلم وجهها الساموري ولد بي رئيس كونفدرالية عمال موريتانيا والقيادي النقابي المعارض، قبل أيام إلى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة يستغيث فيها بالأمم المتحدة ويعرض فيها ما يواجهه ضحايا العبودية في موريتانيا من غبن وتحامل.
الرق أو آثاره
أعادت هذه الرسالة التي تأتي بعد شكوى مماثلة كان قد تقدم بها ولد بي للأمم المتحدة في كانون الثاني/يناير 2010، قضية الرق في موريتانيا للواجهة وجعلت الجميع يتساءل عما إذا كان الرق موجودا بالفعل في موريتانيا أم الموجود هو آثاره وانعكاساته.
وكان الجميع يعتقد أن القضية أصبحت قيد التلاشي بعد أن أقرت الجمعية الوطنية الموريتانية (الغرفة الأولى للبرلمان) يوم الخميس 13 آب/أغسطس الماضي مشروع قانون رقم 049/15 يلغي ويحل محل القانون رقم 13/011 الصادر بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير2013؛ ويقضي بمعاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفها جرائم ضد الإنسانية .
قانون جديد
يتألف القانون الجديد من 26 مادة وتنص مادته الثانية على أن «الاستعباد يشكل جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم» وتبين المادة الثالثة الحالات التي توصف بأنها استعباد، ومعاقبة كل إنتاج أو عمل ثقافي وفني يمجد الاستعباد، بعقوبة ست سنوات سجنا ومصادرة ذلك العمل.
ويفرض القانون الجديد غرامات مالية على كل من شتم علنا شخصا ووصفه بأنه عبد، أو ينتسب إلى العبيد، وسن القانون الجديد عقوبات تصل إلى عشر سنوات سجنا نافذا، وتصل الغرامة المالية إلى خمسة ملايين أوقية (حوالي 13 ألف دولار).
واستحدث القانون الجديد محاكم متخصصة لمواجهة الرق بقضاة متخصصين، ألزمهم القانون بالمحافظة على حقوق الضحايا في التعويض، وتنفيذ الأحكام القضائية التي تتضمن تعويضا لضحايا العبودية، دون انتظار الاستئناف.
تظلم مرفوع إلى بان كي مون
يبدو أن الساموري ولد بي القيادي النقابي البارز الذي يلقبه البعض بـ»مانديلا موريتانيا» لم يكتف بالإجراءات التي تضمنها «القانون الجديد الواضح الذي لم يترك منفذا لممارسة هذه الجريمة، حسب تأكيدات وزير العدل الموريتاني سيدي ولد الزين».
فقد أكد ولد بي في رسالته للأمين العام للأمم المتحدة على «الطابع الاستعبادي للدولة الموريتانية التي لم تتصرف كما يجب للقضاء على ظاهرة الرق» بسبب ما يرى ولد بي أنه «غياب الإرادة السياسية».
وأوضح «أن الدولة الموريتانية تمارس التمييز العنصري وتخرق ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية السياسية».
وأضاف «إن الدولة الموريتانية ظلت تتملص من الواجبات التي تفرضها عليها الممارسات الدولية بخصوص احترام الحقوق الأساسية وحقوق الشعوب».
عنف وحرمان
وأشار ولد بي في رسالته إلى «أن مجموعة «الحراطين» تتعرض لشتى أنواع العنف وبخاصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والمعنوية والثقافية والبدنية».
وقال «إنهم محرومون من حقوقهم الأساسية، كما أنهم يعيشون أوضاعا مزرية حيث يخضعون رغما عنهم لأعنف أشكال الرق، مما يجعل واقعهم آخر جيب من جيوب الرق في العالم الحر، مما يجعلهم الحماية والدعم القانوني ليتمكنوا من استعادة حقوقهم والتمتع بها بصورة غير منقوصة».
التماس تدخل أممي
«ولهذا، يضيف الناشط الحقوقي الموريتاني، توجهت إليكم رغبة في الحصول على تدخل من هيئتكم المحترمة يضمن الحماية الفعلية للحراطين من حالات الظلم الكبيرة التي يعانونها والتي تجعلهم خاضعين لرق أبدي وهم محرومون من حقوقهم الأساسية ومن كرامتهم الإنسانية».
وأكد ولد بي «أن مجموعة الحراطين التي تمثل 53 في المئة من مجموع سكان موريتانيا، محرومة من المناصب في الدولة ويتعرضون للاتجار بهم ويعيشون في أسفل السلم الاجتماعي، كما أنهم يعانون من هيمنة المجموعة العربية البربرية (المور) التي تمسك بمفاصل الدولة وتتحكم في مقدراتها». وأشار في رسالة تظلمه إلى «أن الأمم المتحدة قامت بجهود كبيرة للتخفيف من معاناة الحراطين ولتمكينهم من التمتع بحقوقهم وذلك بدعمها لجهود محاربة الرق وآثاره» إلا أن «هذه الجهود، يضيف ولد بي، التي تنضاف لجهود الاتحاد الأوروبي في المجال، لم توصل للنتائج المرجوة بسبب النظام السياسي العفن القائم في موريتانيا والعصي على التغيير والتبديل بإتجاه التقدم واحترام الحقوق».
خداع المجموعة الدولية
وأوضح ولد بي «أن الأنظمة المتعاقبة على موريتانيا ظلت منذ استقلال الدولة عام 1960 تخادع المجموعة الدولية حيث تمكنت من إجهاض كافة المخططات التي تتخذها أو توصي بها الهيئات الدولية مكتفية بحلول في الواجهة تبقي على مجموعة الحراطين في وضعها المأساوي».
واستعرض في رسالته جميع المراحل التي مرت بها قضية الحراطين الموريتانيين منذ استقلال الدولة الموريتانية عام 1960 حتى اليوم، مؤكدا أنه لم يحدث أن قام أي من الأنظمة التي حكمت موريتانيا بما ينهي معاناة مجموعة الحراطين المستعبدة والمهمشة.
واقع مرير
وعن واقع مجموعة الحراطين اليوم أكد ولد بي «أن هذه المجموعة معزولة إلى أبعد الحدود حيث أن النظام الحالي يعمل لإبقاء الحراطين في أوضاع مزرية تتسم بالأمية والفقر مع حرمانهم من فرص العمل والتعليم ليصلوا بذلك للاستفادة من ثروات البلد مثل المجموعات الأخرى».
«وعلى المستوى السياسي، فمجموعة الحراطين محرومة رغم ثقلها الديموغرافي، من تبوؤ مكانتها وذلك بسبب تحكم المستعبدين في الحياة السياسية والعمليات الانتخابية، كما أن هذه المجموعة محرومة من الوصول للوظائف العليا في الدولة حيث لا تتجاوز استفادتها نسبة 1 في المئة مع أنها تمثل 53 في المئة من السكان».
وتابع القيادي النقابي تظلمه قائلا «وعلى المستوى الاقتصادي لا يوجد رجل أعمال واحد من الحراطين، أما صغار الباعة المتجولين من هذه المجموعة فهم عرضة على الدوام للمطاردة ولفرض المكوس المجحفة».
إسكات الأصوات
وأشار الساموري في آخر تظلمه إلى «أن الحكومة الموريتانية الحالية أرست نظاما لإسكات صوت الحراطين حيث اعتقلت قادة حركة (إيرا) بزعامة بيرام ولد الداه واستهدفت الأجهزة السياسية الحراطين المناهضة للرق مثل حزب المستقبل وحركة الحر وحزب الراك، مع تشجيعها لإكتتاب الحراطين وإرسالهم إلى السعودية وإلى دول أخرى للعمل في ظروف صعبة خرقا للإتفاقايت الدولية التي صادقت عليها موريتانيا».
عرقلة تنفيذ قانون 2007
وتأتي هذه الرسالة لتنضاف إلى تقرير المنظمات المناهضة للرق المؤلف من 28 صفحة والذي توصل لخلاصات منها «أنه على الرغم من صدور قانون لمكافحة الرق سنة 2007 فإن الرق ما يزال منتشرا في موريتانيا مما يتطلب من الحكومة اهتماما كبيرا وعملا متفانيا للتغلب عليه».
وأشار التقرير إلى ان «عرقلة تنفيذ قانون 2007 المجرم للعبودية نتيجة عجز القضاء عن تطبيق الاجراءات المناسبة وإدانة ملاك العبيد» مبرزا «أنه بدلا من دعم العبيد السابقين والمناضلين ضد العبودية، تقوم الحكومة بقمعهم وسجن بعضهم مما يدفعهم لعدم الثقة في جديتها في مكافحة العبودية».
وتحدث التقرير عن «اعتماد قانون منقح لمكافحة الرق هذا العام يتضمن عقوبات أقسى على المسؤولين الذين يمتنعون عن التحقيق في حالات العبودية ويسمح للمنظمات الحكومية برفع قضايا نيابة عن الضحايا، وبالرغم من أنه يمثل خطوة واعدة إلى الأمام فإنه يجب على الحكومة الالتزام بتنفيذه وتطبيقه الشامل والكامل للقضاء على الرق في موريتانيا.»
ويقدم التقرير مقاربة لفهم نظامي العدالة الجنائية والإدارة في موريتانيا كما يتعرض لما يعتبره «فشلا للسلطات المسؤولة في تطبيق تشريعات مكافحة العبودية».
اعتراف ولكن..
وفي حين يعترف التقرير في خلاصته بوجود بعض الاستعداد لدى الحكومة الموريتانية السابقة في زمن ولاية الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله من خلال اعتماد قانون لمكافحة الرق، فإنه يعتبر أن الحكومة الحالية قد أظهرت «إرادة سياسية ضعيفة بل معدومة في الواقع لتنفيذ القانون»، حيث يكشف التقرير عن «تردد كبير من جانب السلطات الإدارية والقضائية وسلطات النيابة العامة والشرطة في فرض تطبيق القانون المتعلق بالرق».
قانون جديد
وبالرغم من شكاوى مناهضي الرق من قياديين وجمعيات فإن الجمعية الوطنية الموريتانية (الغرفة الأولى) في البرلمان، قد أقرت في شهر آب/أغسطس الماضي، قانونا جديدا يُجرم ويعاقب الممارسات الاستعبادية في البلاد.
ويقع القانون في 26 مادة، وتحدد المادة الثالثة مختلف الحالات التي يمكن أن تسمى «استعبادا».
خريطة طريق محددة
وكانت الحكومة الموريتانية قد صادقت في آذار/مارس الماضي على خريطة طريق لمحاربة الاسترقاق والقضاء على مخلفاته في أفق عام 2016، وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة، اشتملت على 29 توصية تغطي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، والحقوقية، كما تشمل الجوانب التعليمية والمعرفية.
وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي أوصت الخريطة بتركيز الاستثمار في المناطق التي يعاني سكانها من الفقر وتدني مستوى الدخل بسبب تأثرهم تاريخيا بالاسترقاق، وذلك من خلال توفير البنى التحتية والخدمية، وتمويل المشاريع المدرة للدخل وخلق نشاطات اقتصادية في محيط الفقراء من أبناء هذه الشريحة.
وفي المجال القانوني والحقوقي أوصت الخريطة بمراجعة النصوص القانونية المتعلقة بتجريم الاستعباد وتضمينها تغريم من تثبت ممارسته للاستعباد وإلزامه بالتعويض للضحية، فضلا عن تكوين القضاة في مجال التعاطي مع قضايا الرق، وتقديم المؤازرة القانونية للمستعبدين من خلال توكيل محامين للدفاع عنهم.
وفي مجال التعليم نصت على توفير التعليم وإلزاميته في المناطق التي يوجد بها الأرقاء السابقون والتي تعرف محليا باسم «آدوابه» وتوفير الحضانات المدرسية فيها لتتولى إعاشة الأطفال وتحمل نفقات تعليمهم، إضافة إلى تقديم مساعدات مالية لآباء الأطفال مقابل السماح لأبنائهم بالالتحاق بمقاعد الدراسة.
وبالرغم من هذه الإجراءات يظل الجدل قائما بين الناشطين في مجال محاربة الرق والسلطات الرسمية حيث يؤكد مناهضو الاسترقاق أن القوانين وحدها لا تكفي إذا لم تطبق، فيما تؤكد الحكومة أنها ماضية في طريق القضاء على الرق ومخلفاته بسن القوانين والصرامة في تطبيقها وبتنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية لدمج المتخلصين من العبودية.
qpf
عبد الله مولود