شرعت حكومة العدالة والتنمية التركية مؤخراً في القيام ببعض التحركات التي أثارت الجدل على المستوى الإقليمي بين أنصارها قبل أعدائها، وفتحت باب التكهنات واسعاً على حقيقة ما يمكن أن يكون تغيّراً في طريقة التعاطي التركي مع ملفات المنطقة.
آخر هذه التحركات كان الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي إلى طهران في الخامس من مارس، حيث جاءت في وقت بلغ فيه الاستقطاب مداه بين معسكر السعودية، الذي كان يظن البعض أن تركيا أصبحت جزءاً منه، ومعسكر إيران.
قبل هذه الزيارة كان هناك الإعلان التركي عن الرغبة في استئناف العلاقة مع الاسرائيليين، بعد فترة جمود طويلة، فرضها تعنت أولئك وتبسيطهم لحادثة الاعتداء على سفينة مرمرة، وهي العلاقة التي تم تبريرها بأنها قد تساعد، أكثر من القطيعة، في فتح منافذ جديدة للحياة لقطاع غزة المحاصر، في الوقت ذاته كانت تركيا، الداعم الأهم للثورة السورية، والناقد الأكبر لتعامل الدول الغربية غير الإنساني مع الأزمة، تقوم بصنع سياج يفصلها عن الحدود السورية، وتشدد الإجراءات بحيث يصبح قبول لاجئين سوريين جدد أكثر تعقيداً. كل ذلك أوجد ردود فعل متباينة عند التيار العربي الذي كان يحس باليتم، وبعدم وجود قيادات جادة في العالم العربي، قادرة على الأخذ بيده نحو طريق النهضة والتطور. ذلك التيار كان يرى في أردوغان أباه الروحي ومثله الأعلى كرمز من رموز النهضة أو كخليفة مسلم جديد. ورغم أن أردوغان لم يعلن يوماً عن رغبته في أسلمة الدولة التركية، إلا أن الغالب من أولئك المناصرين بالغ مع مر السنوات في الترويج لما بات يعرف إعلامياً بـ»التجربة الإسلامية التركية»، وهو ما أدخل القيادات التركية في امتحانات صعبة وجعلها مجبرة على إعلان تمسكها بالعلمانية وبالهوية القومية التركية، التي يعتبر الإسلام مجرد مكون من مكوناتها.
يمكن أن نفهم لماذا يستغرب العرب من الطريقة التي تحرّك بها تركيا أحجارها على رقعة السياسة الدولية، فأولئك مهووسون في غالبهم بالمعادلات الصفرية التي ترى أن الشخصيات السياسية يجب أن تختار ما بين الخير المطلق، فتطبق كل الأوامر والنواهي الشرعية بالداخل، وتسعى لتغيير الواقع الدولي بالخارج، وعلى رأسه ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، إما ذلك وإما أن تكون مجرد شر مطلق تتساوى فيه مع أنظمة القمع والاستبداد والتآمر العربية. لكن، وللإنصاف، فليس فقط الأفراد هم المهووسون بالتصنيف على طريقة إما أبيض أو أسود، ولكن حتى حكومات المنطقة وأنظمتها التي تتأرجح، على سبيل المثال، بين الفتح الكامل للأبواب للإيرانيين لدرجة تمكنهم من حرية نشر مذهبهم وأفكارهم، وبين غلق كل الأبواب والمنافذ وتجاهل الدولة التي ستبقى رغم كل شيء في مكانها الجغرافي ذاته. الوضع مختلف في تركيا التي توازن سياستها الخارجية، بما يخدم صورتها ومبادئها، ولكن أيضاً بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، فهي دولة لا تريد ببساطة أن تخسر المكانة التي تتميز بها كأحد أهم الاقتصاديات العالمية.
من الخطأ تشبيه تركيا بالامبراطورية العثمانية التي كانت مسؤولة مسؤولية فعلية عن كل بلدان المنطقة، بحكم أنها تقع تحت سيطرتها ونفوذها، فنحن الآن أمام واقع مختلف قد تشعر فيه تركيا بالتعاطف مع قضايا المنطقة بحكم الصلات التاريخية والتشارك الحضاري، لكن ذلك لن يكون أبداً لدرجة تدفعها للتضحية بمصالحها مقابل الدفاع عن قضايا تظل، رغم كل ما يمكن أن يقال عنها، خارجية. إذا كنا نؤمن بالحرية والمشاركة السياسية المتساوية في تركيا وبأن أردوغان لا يملك حرية التصرف بدون الرجوع لقاعدته، فإننا يجب في هذه الحالة أن نتذكر أن هناك من يعارض المقاربة التركية لشؤون المنطقة، وأن هناك أصواتاً كثيرة ترى في مشروع العدالة والتنمية تهديداً للدولة التركية، التي يجب أن تكون، بنظرهم، أكثر حياداً فيما يتعلق بالجوانب الدينية. هذه الأصوات لا تشكل غالبية بالتأكيد بدليل فوز الحزب الحاكم وسيطرته حتى الآن على غالبية الأصوات، لكنها رغم ذلك أصوات يجب أن تؤخذ بالاعتبار، خاصة بعد أن رأينا كم الأزمات الذي نتج من تجاهل مطالب الأقلية الكردية التي أصبحت بفعل علاقات أولئك وارتباطاتهم الخارجية من أهم الأخطار والتهديدات التي تواجه السلم الاجتماعي في البلاد. هذا على صعيد الداخل وهو صعيد مهم، لأن عدم تماسكه وضعفه يؤدي إلى ضياع الكثير من الجهد والوقت. حزب العدالة والتنمية، كما غيره من الأحزاب الحاكمة الإيجابية، يؤمن بأن سر قوته يكمن في الاتكاء على قاعدة جماهيرية صلبة ومقتنعة بما يتم اتخاذه على صعيد السياستين الخارجية والداخلية.
لقد وجدت تركيا التي روّجت لنفسها عبر نظرية «العمق الاستراتيجي» لداود أوغلو كدولة واسعة الأفق ومنفتحة على الجوار والعالم، أنها تحوّلت مع نهاية العقد الأول من الألفية إلى دولة ذات علاقات معقدة تقريباً مع كل الأطراف الدولية. بعض السياسيين في منطقتنا، وحينما يجدون أنفسهم محاصرين من جهات مختلفة، يعمدون للمسارعة إلى الإعلان عن المؤامرة الكونية التي تستهدفهم وتستهدف دورهم في المنطقة. لكن هذا الصراخ، الذي قد يكون مفيداً للاستهلاك الداخلي، لا يجد في غالب الأحوال أذناً خارجية صاغية، فالخارج لا يغيّر تعامله معك، إلا حينما تحاول أنت بجدية أن تخلق معه أفقاً مشتركاً بالابتعاد عن لغة الشعارات والنزول للغة المصالح الواقعية. هذا بالتحديد هو ما يسمى بالبراغماتية التي يمكن أن نفهمها على أنها انتهازية ووصولية، ولكن أيضاً يمكن تقبلها على أساس أنها فن التعامل مع الواقع بحسب الممكن، أو فن التنازلات المقبولة بما يخدم المصلحة، وهو ما يمكن تأصيله باستخدام اللغة الفقهية التي تتحدث عن «أخف الضررين»، أو عن ضرورة وزن المصالح والمفاسد بما قد يؤدي إلى تقديم مفسدة صغيرة مقابل مصلحة بعدها أو لاتقاء مفسدة أكبر.
لقد نشأت دول وجماعات في العصر الحديث على تلك القاعدة الصفرية، التي تقول إنه إما أن نطبق جميع مبادئنا وأفكارنا دفعة واحدة وإما أن نموت دونها، وما حدث، في غالب تلك الأحوال، أنهم إما ماتوا دونها فعلاً واندثروا أو تم تغييرهم بآخرين، من داخلهم أحياناً، أكثر ليناً. تركيا التي كانت من أهم رافضي العقوبات الدولية على طهران، ومن أول المرحبين بالاتفاق النووي، الذي شاركت في بعض مراحله كوسيط، كانت هي ذاتها تركيا التي تمسكت بموقف على النقيض من ذلك الإيراني إزاء الثورة السورية. قد يبدو ذلك متناقضاً بالنسبة إلينا، فمن عادتنا خلط السياسي بالاقتصادي، أو اعتبارهما شيئاً واحداً. رأينا ذلك في أمثلة عربية كثيرة تصالحك فتعطي كل شيء أو تعاديك فتنزع عنك كل شيء. أما على الصعيد الدولي فليست تركيا وحدها التي تتعامل بواقعية، فهناك روسيا التي تدير تنافسها الإقليمي مع تركيا بحكمة وضبط نفس، لما يترتب على التصعيد غير المدروس من أضرار وتداعيات، وهناك إيران التي تدرك أنها بحاجة دائمة لتركيا، التي ساعدتها سابقاً في الوصول لاتفاق ناجح وتساعدها الآن على الاندماج التام في الأسواق الغربية، وقبل كل ذلك هنالك الأمريكيون وغيرهم من الغربيين الذين لا ينكرون براغماتيتهم.
لأسباب كثيرة لا يمكن أن تمضي تركيا في طريق معاداة إيران، فالأخيرة قادرة على جعل الوضع الأمني التركي الداخلي أكثر اشتعالاً، بما تملكه من أنصار للولي الفقيه داخل الحدود التركية، لكن هذا التخوف ليس السبب الوحيد الذي يدفع لمد الجسور مع دولة الملالي، حيث أن هناك أيضاً الجانب الاقتصادي الذي تحدثنا أرقامه عن دولة تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي والمعادن في العالم، ورابع أكبر احتياطي من النفط، والأهم من ذلك موقع فريد وعدد من السكان يقارب الثمانين مليون نسمة. بالمقابل فإن إيران بدورها ما تزال تبحث عمن يسوّقها أوروبياً وأمريكياً، هي تحتاج وسيطاً لسبب بسيط وهو، أن خطابها الإعلامي المتناقض مع مصالحها الذي يهاجم في شغف حتى الآن الولايات المتحدة بتحريض من المتشددين، هذا الخطاب يجعل من الصعب عليها الانخراط المباشر في شراكة غربية. أما لو وجدت من يلعب هذا الدور، فإنها حينئذ يمكنها أن تستمر في اللعبة التي تجيدها: حرب الغرب لفظياً والشراكة معه فعلياً، وبما لا يغضب الأصوليين المقربين من الولي الفقيه الذين ما يزالون يعيشون في عصر «الموت لأمريكا»!
تدفق اللاجئين السوريين دخل كمتغيّر جديد على الساحة التركية، التي تعاملت في البداية بسياسة الباب المفتوح، ربما لظنها أن الأزمة سرعان ما تنتهي، وأن النظام سيسقط لا محالة وفي وقت قريب. لكن لما طال الأجل تحول الأمر إلى مشكلة حقيـــقية ذات أبعاد أمنية وسياسية واقتصادية، مما استـوجب تغيـير الســياسة الــقــديمة بما يشــكل ضغطاً على المجتمع الدولي، خاصة الأوروبيين ويدفعهم للمشاركة في تحمل بعض الأبعاد الإنسانية للأزمة.
أراد السياسيون الأتراك تحويل المحنة الى منحة باستخدام اللجوء كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي ونجحوا، عبر مواقف متناسقة، في إيصال رسالة مفادها أنه من الوهم التفكير بأن تركيا ستصبح وطناً بديلاً وحيداً للشعب السوري. لقد نجحت الدبلوماسية التركية في استخدام هذه الورقة لتقوية موقفها المطالب بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو على أقل تقدير منح حرية الحركة وإلغاء التأشيرات، كما استطاعت أن تذيب جبل الجليد الذي شكّل علاقتها مع دول كاليونان بإشعارها أنها، وتركيا، في معسكر واحد. هكذا يبدو الأمر أكثر تعقيداً مما يظن هواة التنظير السياسي الذين يجعلون أردوغان في مرة نبياً ومحرراً وفي مرات أخرى عميلاً صهيونياً.
٭ كتب سوداني
د. مدى الفاتح