هل سيتخلى يهود تونس عن إسرائيل؟

حجم الخط
11

الكرة الآن في ملعبهم، فهم وحدهم من سيقرر ما الذي يريدونه بالضبط، بعد أن فقد أي مبرر لأن يلمح أو يصرح أحد بأنهم مازالوا منبوذين أو منسييين أو خاضعين رغما عنهم لإرادة الأغلبية العربية المسلمة في البلاد.
فإما أن يستمر اليهود التونسيون في انطوائهم وعزلتهم ويكتفون فقط بالقول كل مرة بأنهم يحبون تونس، ويهيمون بها شوقا وهياما، وإنهم مستعدون لأن يدفعوا الغالي والرخيص لأجلها بدون أن يقدموا على خطوات فعلية يثبتون بها أنهم مواطنون كاملون لهم ما على غيرهم من حقوق وواجبات. وإما أن يتركوا مقاعد المراقبين والمتفرجين ويدخلوا معترك السياسة من أوسع أبوابه ويقطعوا مع ما يتردد عن ازدواجية انتمائهم، وينظروا للقرار الأخير لحركة النهضة ترشيح يهودي على إحدى قوائمها للانتخابات البلدية المقبلة، على أنه فرصة غير قابلة لأن تضيع .
صحيح أنهم لم يكونوا في السابق بعيدين تماما عن السياسة، فبعض وجوههم نشطت في الماضي القريب، مثل جورج عدة، وجلبار نقاش، ولكن الذي عرفه التونسيون عنهم، أنهم بقوا لستة عقود كاملة في شبه عزلة تامة عما يجري على الساحة المحلية من صخب وصراعات واضطرابات، مفضلين النأي بانفسهم عما يدور داخلها، ومعتبرين أنه من الأجدى لهم ألا ينحازوا أبدا بشكل مكشوف لطرف على حساب آخر، وأن يحتفظوا بمسافة واحدة من كل الخصوم والفرقاء، رغم أنهم كانوا حريصين دوما على تمتين روابطهم بالحكام. ولم يكن يعني ذلك مطلقا، وفي أي وقت من الاوقات، انهم لم يكونوا مهتمين بصون مصالحهم والاستفادة للحد الاقصى مما كان يدور داخلها من مناكفات ونزاعات، بل إنهم كانوا يقررون احيانا، ومن وراء الستار، في مجريات كثير من الأحداث والتطورات التي حصلت فيها. وربما رضوخا للظروف أو حتى بشبه اتفاق ضمني مع السلطات، اختار اليهود التونسيون أن يظلوا خارج كل المواقع الأولى في الحزب الحاكم، وفي الحكومات التي تعاقبت على البلاد بعد الستينيات، رغم أن بعضهم وصل لمواقع شرفية، مثل مجلس المستشارين المنحل في عهد الرئيس المخلوع بن علي مثلا. لكن التغييرات التي شهدتها تونس في السنوات السبع الاخيرة، لم تترك أثرها الواضح على مشاركتهم وانخراطهم بشكل فاعل في الحياة السياسية والمدنية، فهل أربكهم قرار حركة النهضة وشوش حساباتهم، ودفعهم لفتح ملف لم يكونوا راغبين في الفصل فيه في هذا الظرف بالذات؟ أم أنه اعطاهم فرصة ثمينة لمراجعات ضرورية ومطلوبة، تسمح لهم بأن يثبتوا مدنيتهم وتعلقهم بالديمقراطية حسا ومعنى، وانتماءهم الكامل لبلدهم الأصلي؟ حتى إن قال البعض إن ترشح يهودي واحد على قائمة حزب اسلامي في الانتخابات البلدية المقبلة لا يمكن أن يكون بأي حال مؤشرا على تغير جوهري في مواقفهم، أو أنه مثلما صرّح بذلك بيريز الطرابلسي أحد الوجوه اليهودية المعروفة، لم يكن سوى خيار فردي لا يعكس بالضرورة موقف كل اليهود التونسيين، فلن يكون ذلك كافيا أو مقنعا لأحد للاستنتاج بأن الوضع سيبقى بالضرورة على حاله، أو أنه لن تكون له تداعيات على وضعهم داخل تونس.
لعل بعض تلك الأفكار خامرتني ليل الاثنين قبل الماضي وأنا التقي سيمون سلامة الرجل الذي قد يكتب التاريخ يوما أنه أسهم في فك عزلة اليهود التونسيين الطويلة عن السياسة. وكان لابد لي في الحوار الذي أجريته معه، من أن أعيد عليه في كل مرة ما كان يقوله، وأن استوقفه بعدها بين الحين والحين لاسأله إن كان يقصد بالفعل كل ما كان يتلفظ به. فلم يكن من السهل عليّ وانا أقابله ساعات قليلة فقط بعد تقديم ترشحه بشكل رسمي على قائمة حركة النهضة، أن أصدق بسهولة ما كان يصرح لي به، في أول حديث يدلي به لوسيلة إعلام من خارج تونس.
وربما خلت لبعض الوقت، لكثرة ما ردد امامي أن تونس دولة إسلامية، قاصدا أنها دولة مسلمة، أن محدثي لم يكن يهوديا بل ناشطا اسلاميا متحمسا لبناء دولة الخلافة. ولكن سيمون كان يصر على التأكيد في كل مرة على أنه يعي جيدا ما يقوله. وكان يكرر بثقة وفخر كيف أن الإسلاميين أو النهضويين رحبوا به بشدة ولم يضعوا امامه أي شرط للترشح كمستقل على قائمتهم، وانه اختارهم فقط لانهم يخافون الله. والغريب أن معظم الصحافيين والمحللين التونسيين الذين حاولوا على مدى اسبوع كامل البحث عن السبب الحقيقي الذي جعل يهوديا يفضل حزبا إسلاميا على أحزاب أخرى تدعي أنها علمانية أو مدنية، وعن المبرر الذي جعله يعتبر أن ذلك الحزب يخاف الله أكثر من غيره، لم يلقوا بالا لما قد تدل عليه تصريحات سيمون بالنسبة لتوجهات يهود تونس المستقبلية، بقدر ما سارعوا للتأكيد على أن الرجل صار ألعوبة بيد الإسلاميين، وأنهم بصدد استغلاله للفوز بالانتخابات وكسب تعاطف غربي يحتاجونه للبقاء في السلطة. لقد انصب كل الاهتمام على تفكيك المفاجأة من زاوية واحدة، وهي ما سيكسبه الإسلاميون التونسيون سياسيا من وراء تلك الخطوة، وهل انها تكتيك انتخابي محدود الأثر؟ أم مناورة سياسية ورسالة بعيدة المدى للخارج؟ لكن الزاوية الأخرى التي بقيت معتمة في ظل التركيز المفرط على مكاسب الإسلاميين هي، ما الذي سيعنيه ذلك ليهود تونس؟ وكيف يمكنهم استخلاص العبرة من تجربة سيمون للتقدم لاحقا إلى المشهد السياسي بشكل واضح ومكشوف؟ ثم هل سيكون ذلك مقدمة للفصل المطلوب بين اليهودية والصهيونية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل أن المرشح اليهودي سيكون بالون اختبار للطائفة اليهودية تحدد من خلاله في وقت لاحق شكل وطبيعة وجودها في الساحة السياسية المحلية؟ أم أنه سيكون بالضرورة منطلقا جديدا وبداية فعلية لعملية فك طوعية لعزلة اختيارية دامت عقودا واستنفدت كل أغراضها واسبابها؟ لا شك أن الحرفي المغمور الذي لم يتمرس بعد بالسياسة سيسمح لهم بهامش من المناورة في ساحة سياسية محلية تعيش تناقضات وتجاذبات معروفة. ولكن نقطة الصدام الاكبر لن تكون مع الداخل فالإشكال ليس في الألفي يهودي تونسي في حد ذاتهم، بل في الازدواجية التي لا تزال تحكم جزءا منهم وتجعلهم منقسمين في انتمائهم لموطن أصلي هو تونس وموطن تمثلي، وربما عقائدي هو اسرائيل، وايضا في الآلاف الاخرى التي هاجرت منهم إلى فلسطين المحتلة في الاربعينيات والستينيات بالخصوص. ونجاح التجربة، قد يجعل هؤلاء يراجعون على المدى الطويل، وربما المتوسط مسألة الانتماء ويقوض الاسطورة التي يروجها الاسرائيليون بانهم حماة ليهود العالم المضطهدين وبالخصوص اولئك الذين بقوا منهم في الدول العربية.
يبقى هل انه باستطاعتهم أن يحسموا بسرعة بين ارتباطهم بوطنهم الأصلي وولائهم الروحي ربما لوطن اخر غير وطنهم؟ أم أن روابطهم باسرائيل ستظل متينة وقوية في كل الاحوال؟ ستكون طبيعة القرار مرتبطة لحد كبير في ما اذا كانوا سيقررون مصيرهم من تونس؟ أم أنهم سيحسمون الامر من تل ابيب أو من باريس؟
كاتب وصحافي من تونس

هل سيتخلى يهود تونس عن إسرائيل؟

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالوهاب عليوات:

    بعد أن سوط برلمان تونس الثوري ضد تجريم التطبيع.. فالأحرى أن يكون السؤال هل ستتخلى تونس عن أسرائيل؟؟ لانه من المفروض أن يهود تونس تونسيون وليسوا اسرائيليين إلا إذا أرادت تونس عكس ذلك بدعوى المصلحة العليا التي صار البعض يبرر بها بيع كل شيء بما فيها الوطن.

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      التونسيين مهما كان معتقدهم و الذين لهم جنسية مزدوجة مهما كانت….هم تونسيون و لهم الحق فى الدخول و الخروج من بلادهم هذا حق دستورى ….و الدستور لم يستثنى جنسية بعينها ….و مصلحة تونس هى فى انفتاحها على العالم ….لاننا لا نسبح على بحر من الغاز و النفط و كل ثروتنا هى قدرة شعبنا على خلقها لا على التعويل على ما أعطته الطبيعة….تحيا تونس تحيا الجمهورية

  2. يقول د.علي الحاسنه-الاردن:

    لعلمكم اخي الكاتب فانه قد ترشح احد المسيحيين عندنا في مدينة الزرقاء على قائمة جبهة العمل الإسلامي وفاز بمقعد البرلمان عدة مرات

  3. يقول تونسي يتساءل:

    سؤال:
    هل شعور التونسي بالانتماء لمكة والمدينة وشوقه لزيارتهما إنتماء لغير تونس وعليه أن يتخلى عنه ويتوب؟
    لقد علمنا آباؤنا الكيل بمكيالين جهلا، فما هو عذرنا نحن في تمرير تلك الكراهية لأطفالنا؟

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      برافوا ولد بلادى ….جبتها ….تحيا تونس تحيا الجمهورية

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    يعني لو لم تكن اسرائيل موجودة هل سيسمح لليهود وغيرهم ان يصبحوا رؤوساء في بلداننا,ثم لماذا التشكيك بوطنية المواطنيين الموجودين في البلد ويعيشون به ولم يهاجروا منه فقط لانهم مختلفين عن الاغلبية,والعنوان مثير للشك كان الاحرى بالاخ كاتب المقال تغييره او صياغته باسلوب اخر فكان اليهود التونسيين متمسكين باسرائيل والان اعطيت لهم حقوقهم ويجب ان يتخلوا عن اسرائيل

  5. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    هناك أكثر من 400 الف تونسي اغلبهم مسلمين يحملون الجنسية الفرنسية كجنسية ثانية و الكثير مت نواب ووزراء حركة النهضة و اكاد اجزم انهم مسلمون يحملون جنسية مزدوجة هل هؤلاء يجب التشكيك فى وطنيتهم…و انتمائهم لتونس ….؟
    ام ان اليهود التونسيين يجب ربطهم آليا باسرائيل و يجب عليهم أن يثبتوا ولائهم لتونس …

  6. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    اريد ان اقول فى النهاية ان اليهود التونسيين هم مواطنون فى هذه البلاد منذ 2500 سنة و لا احد اقول لا احد مهما كان ….يمكنه ان يعطيهم صك فى الوطنية و الولاء لتونس و اذا سقطنا و انحدرنا إلى إثبات الولاء لتونس من كل التونسيين فسوف نرى مفاجأة….ممن ولائهم لاممية إخوانية عالمية و آخرون ولائهم للقومية العروبية …..و آخرون ولائهم لاممية شيوعية …..تحيا تونس تحيا الجمهورية و لاولاء الا لها

  7. يقول خليل ابورزق:

    الاصطفاف مع الكيان المسمى اسرائيل معناه تأييد اغتصاب الاوطان و تهجير اهلها منها و حرمانهم من العودة اليها و احتلال بقية وطنهم و انشاء مستوطنات عليها. و خاصة ان العدوان و الاغتصاب يتم بدعوى انهم كانوا هنا قبل 2000 عام مع اعترافهم بانهم جاءوها غزاة محتلين حتى في ذلك التاريخ السحيق. و الانكى انهم يقولون ان عودتهم تأتي بوعد الهي و اكثرهم غير متدين اصلا. و الكل يعرف انهم انما جاءوا بوعد بريطاني و قاموا بدعم امريكي و تعويضات المانية.
    قد نتفهم مواقف عامة الناس في الغرب بسبب الجهل و الاعلام الموجه. اما اذا كان الاصطفاف عن وعي كما هو في حالة اليهود العرب او غيرهم من المنتمين للعالم العربي او عن تقديم المصالح على المبادىء فهذه ليست حرية رأي و لكنها جريمة تستوجب المسائلة.
    ارى سن قوانين تجرم انكار حق الشعب الفلسطيني بالعودة الى بلاده على وزن قوانين معاداة السامية

  8. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    @خليل : يعنى لكى ترضى علينا يا سيد خليل يجب أن نلغى جزء من شعبنا و تاريخنا و ثقافتنا ….هكذا …! و لكى ترضى علينا يجب أن نضحى بمصالح تونس و الشعب التونسي ….لما لا ؟…لكن للأسف هؤلاء تونسيين قانونيا و دستوريا و لا نقدر على تحريك ذللك …..و للاسف أيضا تونس قبل كل شئ ….تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

  9. يقول محمد/تونس:

    إلى خليل أبو رزق:
    لا خلاف على عدالة القضية الفلسطينية، وعلى أنها مظلمة القرن العشرين وعلى حق الشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه.
    ولكن المسألة قيد النقاش هي معاملة جميع المواطنين في نفس البلد على قدم المساواة أمام القانون.
    الكراهية المتبادلة بين بعض المسلمين وبعض اليهود لا علاقة لها بقضية فلسطين، بل هي تعود إلى ما قبل ظهور إسرائيل أو حتى الدعوة إلى إقامتها. وخطب الجمعة الموثّقة منذ قرون تثبت ذلك.
    أما وقد شئت الخلط بين المسألتين، فإني أرى أن معاملتنا لمواطنينا اليهود معاملة غير حضارية، في جميع الأزمنة مع استثناءات معدودة، هي من العوامل التي ساعدت على نشوء إسرائيل، ثم – ولعل هذا هو الأهم – تساعد الآن على إعطاء مصداقية لادعاءات اسرائيل بأنها مهددة من جيران غير مسالمين الى درجة أنهم يضطهدون أقليّاتهم.
    ومهما يكن من أمر ، فأنا كتونسي أناضل لكي تكون لنا قوانين وممارسات تكفل معاملة جميع المواطنات والمواطنين على قدم المساواة، بدون أي استثناء كان، وفِي كنف الحريات الفردية والجماعية ومنها حرية الضمير والمعتقد.

إشترك في قائمتنا البريدية