بعد حادثة الاعتداء على مدرسة يهودية في مدينة تولوز الفرنسية، ومقتل أربعة أشخاص (معلم وثلاثة تلاميذ) في نهاية عام 2012، ثم الاعتداء وإطلاق نار على متحف لليهود في بلجيكا، حيث تم القبض على مشتبه فيه بتنفيذ الحادث في فرنسا، تزايدت دعوات الهجرة ليهود أوروبا، كما زادت الوكالة اليهودية والمؤسسات الصهيونية من نشاطاتها وتحركاتها، وكثفت في برامجها، من أجل إقناع أتباع الديانة اليهودية في أوروبا، خصوصا في فرنسا، للهجرة إلى إسرائيل، بل ان المنظمات الصهيونية في فرنسا خرجت بتظاهرات احتجاجية رافعة شعار «يهود مقتولون، جمهورية في خطر»! تتذرع تلك الأوساط وتحاجج بتنامي «اللاسامية» في أوروبا، خصوصا في فرنسا، بالاستناد إلى وجود أوساط فرنسية تنتقد ممارسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الفلسطينيين، أو إذا ما وجهت سهام نقدها لبناء جدار الفصل العنصري الذي بني ويبنى على اراض محتلة، هي ملك للفلسطينيين صادرها الاحتلال الإسرائيلي، كما تنتقد تلك الأوساط هجمة الاستيطان وبناء المستعمرات والمصادرات المتتابعة لأراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم وهدم بيوتهم.
وإذا ما لجأت تلك الأوساط للدعوة إلى مقاطعة منتجات تلك المستوطنات المقامة على أراض محتلة؛ إو إذا ما انتقدت تلك الأوساط ممارسات المحتل ضد المعتقلين الفلسطينيين، كما هو حاصل بالنسبة إلى المعتقلين الإداريين في هذه الفترة، وغير ذلك، فإن صيحة «اللاسامية» تطلق على المنتقدين! هذا وقد جعلت الأوساط الصهيونية في فرنسا الممثل الساخر ديودونيه عنوانا للاسامية التي أخذت تزداد في فرنسا، بحسب اعتقادها، خصوصا أنه لا يتورع عن انتقاد ممارسات الكيان الصهيوني في قضايا كثيرة تجاه الفلسطينيين، مثل بناء الجدار العنصري، وانتقاد ممارسات الحواجز الإسرائيلية وتعاملات جنودها مع الفلسطينيين. وقد أطلق اسم «الجدار» على إحدى مسرحياته. وكانت قد أثيرت ضجة واسعة تجاه ما يقدمه هذا الممثل الفرنسي (من أصول إفريقية) في الفترة الأخيرة، حيث منعت بعض البلديات الفرنسية عروضه، بينما سمحت غيرها بتقديم تلك العروض. كما إن وزارة الداخلية وبعض الأوساط القضائية أخذت تتدخل وتساهم في منع عروضه، ما أدخل فرنسا في مشكلة، أطلق عليها «حدود الحريات» في الأوساط الإعلامية. كذلك يمكن الإشارة إلى ما حصل أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى فرنسا في أوائل شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012؛ إذ أنه وعند وصوله إلى المدرسة اليهودية في مدينة تولوز، التي حصل فيها حادث إطلاق النار، ذكر في حضور الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند «أن إسرائيل على استعداد لاستقبال اليهود من فرنسا والعالم وحمايتهم، كونها وطن يهود العالم كلهم»، الأمر الذي استفز الرئيس الفرنسي ودفعه للقول «يجب على يهود فرنسا أن يعلموا أن الجمهورية الفرنسية تضع كل إمكاناتها لحمايتهم، وأن ضمان أمنهم قضية وطنية، هذه ليست قضية اليهود، وإنما قضية الفرنسيين بأسرهم». وأضاف «أريد أن أعيد التذكير أمامكم بتصميم الجمهورية الفرنسية على محاربة معاداة السامية، وستمنع كل تجلياتها، سواء كانت تجليات بالأفعال أم حتى بالأقوال». هذا ما كان يمكن لأي مسؤول يحترم بلده وقوانينها وسيادتها أن يقوله ويفعله، كون سلطات أي بلد هي الكفيلة بتطبيق القوانين على أراضيها، والتعامل مع مواطنيها بمساواة ـ وحسب القوانين المرعية ـ لا تفرق بينهم، ولا تأخذ اعتبارات اللون أو الجنس أو الديانة أو الأصول الإثنية بعين الاعتبار أو التمييز، وترفض رفضا قاطعا أي تدخل في شؤونها السيادية من أي جهة أو سلطة أخرى غير سلطاتها المعنية.
لن أعود حتى للزيارة
ما يجدر ذكره هنا أن إصرارا وعملا حثيثا ودؤوبا تتولاه المنظمات الصهيونية العالمية والمنظمات المحلية في فرنسا، بينها السفارة والقنصليات الإسرائيلية بطبيعة الحال، وحتى بعض الكنس، من أجل إقناع وإغراء المزيد من أتباع الديانة اليهودية، بالهجرة من فرنسا والذهاب إلى إسرائيل، حيث العمل والسكن المناسبين، وحيث الأمن والأمان والرفاهية والتقديمات الاجتماعية المناسبة؛ بحسب الدعاية الرائجة، حيث تفيد بعض الإحصاءات بأن مواقف اللاسامية ـ حسب الادعاءات ـ تتزايد لدى بعض الأوساط، وحيث يبلغ عدد يهود فرنسا نحو 600 ألف مواطن، وهو الرقم الأعلى لليهود في بلدان القارة الأوروبية. وقد أشارت تقديرات الهجرة من فرنسا إلى إسرائيل مباشرة، أنها في تنام لافت، وإلى زيادة ملحوظة بين عام وآخر، إذ ذكر عوديد فورير المدير العام لوزارة الاندماج الإسرائيلية، أن الوزارة تسعى إلى استقطاب مهاجرين يهود من فرنسا إلى إسرائيل، يصل إلى أربعة آلاف مهاجر عام 2014، وخمسة آلاف مهاجر عام 2015، وستة آلاف مهاجر عام 2016، بحسب ما جاء في ملحق فلسطين الذي تصدره شهريا صحيفة «السفير» اللبنانية (16/6/2014). وجاء فيه أيضا أن وزارة الاندماج الإسرائيلية أعلنت أن 3348 يهوديا غادروا فرنسا إلى إسرائيل عام 2013، بزيادة نسبتها 70٪، في حين إن العدد لم يزد عن 1972 يهوديا عام 2012. وهذا يدلل على أن تناميا في الجهد والدعاية والإعلان، واستغلال أي حادث ضد اليهود، والنفخ فيه وتضخيمه وجعله من الأخطار التي تستدعي الهجرة والمغادرة، كأن الأوطان مجرد شركة أو مؤسسة تجارية؛ إن ربحت كان البقاء، وإن خسرت أو أصابها بعض التلبك، وواجهت صعوبات وخسارات، كان هناك ما يستدعي المغادرة! هذا ما هو سائد لدى بعض أتباع الديانة اليهودية في بلدان عدة. وبحسب المدير العام لوزارة الاندماج الإسرائيلية، فقد جرى استقبال 717 شخصا منذ مطلع العام الحالي. وقد أوردت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أن 854 يهوديا فرنسيا هاجروا إلى إسرائيل في الفترة الممتدة ما بين مطلع كانون الثاني/يناير ونهاية شباط/فبراير عام 2014، في مقابل 274 خلال المدة ذاتها من العام الماضي.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن الأرقام المشار إليها، التي تؤكد تناميا واضحا في الهجرة اليهودية من فرنسا، قابلها ارتفاع في نسبة الهجرة المعاكسة، حيث جاء في ملحق فلسطين المشار إليه سابقا « إن إسرائيل تشهد هجرة معاكسة بزيادة نسبتها 10 في المئة عام 2014 عن العامين 2012 و2013..
أخيرا فقد كان لافتا ما ذكرته كارين (مهاجرة فرنسية يهودية سابقة وعمرها 33 عاما)، من أن المجتمع الإسرائيلي ينبذ الأفارقة بشكل مريع، وهذا أكبر دليل على عنصرية الدولة الصهيونية، التي تدعي أنها أقامت دولة من أجل كل اليهود، لقد اكتشفت أن هذا القول هو ادعاء كاذب، ما دفعني للعودة إلى بلدي فرنسا، ولن أعود إلى هناك أبدا حتى للزيارة» بحسب ما جاء في ملحق فلسطين الوارد ذكره من قبل.
٭ كاتب فلسطيني
سليمان الشّيخ