إقرار رمزي من أعلى مسؤول بالدولة وصفه البعض بالمتأخر وقال عنه آخرون إنه دعائي بلا قيمة حصل في الثالث عشر من اغسطس الماضي، أي يوم الاحتفال السنوي بذكرى صدور مدونة الاحوال الشخصية في تونس قبل نحو ستين عاما من الان.
في الإقرار الذي تلاه الرئيس عبر خطاب رسمي ألقاه مساء ذلك اليوم، وسط حشد نسائي تجمع في حديقة قصر قرطاج، أعلن بوضوح انه مدين للمرأة لانه «لولا تصويت مليون ومئتي الف امراة» له، مثلما قال لما كان موجودا في ذلك المكان اي في القصر. غير انه استدرك مباشرة فور ذلك الاعتراف للفت انتباه الحاضرات إلى أن الحفاظ على مكتسبات المرأة يبقى اولا واخيرا مسؤولية الدولة. كانت اقواله في الظاهر ترديدا كلاسيكيا لحقيقة واضحة وضوح الشمس وهي، أن معظم الاصوات التي حصدها لما كان المرشح الرئاسي الاوفر حظا في الفوز بالسباق الانتخابي الى قصر قرطاج كانت اصوات نساء، رأين فيه صورة المنقذ الحقيقي مما تصورنه خطرا وشيكا يهدد حقوقا غير مسبوقة في المحيط الاقليمي والعربي، حصلن عليها في السنوات الاولى للاستقلال، ولكن تلك الاقوال كانت تستبطن في المقابل ايضا نوعا من التثبيت والترسيخ المقصود لاحداثيات قديمة وضعها النظام منذ ستة عقود، وصارت بمثابة المرتكزات الاساسية التي لا يستطيع التخفف من اثقالها، أو حتى التفكير بمراجعتها وتعديلها. ولان وضع المرأة وموقعها كان ضلعا ثابتا من اضلاع مثلث الحداثة التي روج لها النظام، فقد انتظرت الكثيرات يومها من خليفة بورقيبة أن يحقق لهن مزيدا من الانجازات، ويقرر بشكل فوري وحاسم اجراءات ثورية من قبيل المساواة في الإرث، التي ظلت تشغل ناشطات نسويات على مدى العقود الماضية، رغم أن الفصل الاول من الدستور القديم والجديد للبلاد ينص صراحة على أن دين الدولة هو الاسلام . ولكن جواب الباجي على تلك التطلعات جاء بالرفض، من منطلق الوفاء لما اطلق عليه بورقيبة «سياسة المراحل»، التي تقتضي دراسة الميدان واختيار اللحظة المناسبة لاعلان القرار. ما قاله الباجي لضيفاته ببساطة واختصار هو انه «لم يحن الوقت لذلك»، مبددا آمال كثيرات ظنن أن مجرد وصوله الى القصر سوف يحقق لهن، لا الحفاظ على مواقعهن المتقدمة في المجتمع والدولة فقط، بل الحصول ايضا على مزيد مما يرونها حقوقا ومطالب مشروعة. لكن خارج مطالب المساواة في الارث كان هناك احساس لدى بعض النخب الفكرية والاعلامية، بأن الباجي قد خيب امل الناخبين. فقد مد يده للاسلاميين وقبل باشراكهم جزئيا في السلطة، ما جعله يواجه سيلا من الانتقادات حتى من داخل حزبه، الذي صار مهددا بالانقسام والانشطار. ومرة اخرى جاء الرد بان ما جرى كان ضروريا ومطلوبا لمصلحة الدولة. لقد كان يدرك أن عامل الوقت سوف يكون حاسما في استمالة الخصوم واستيعابهم، وان اسلوب المخمل يبقى الافضل والاسلم لابتلاعهم وحشرهم في الزوايا الضيقة حتى يفقدوا بمرور الزمن جاذبيتهم وصدقيتهم في الشارع، بعد أن تنهكهم تجربة الحكم وتتغلب غواية السلطة وبريقها على نقاء شعاراتهم وصفائها. هل كانت مناورة مدروسة ومحسوبة؟ أم مجرد خطة مفروضة ومملاة من وراء البحار؟ ربما اختلف المراقبون في تفسير ذلك ولكن ما يهم التونسيين بالنهاية، أن الائتلاف بين خصوم الامس صار اليوم حقيقة، تلقى ترحيبا لافتا في الخارج وتقبلا ملحوظا ومتزايدا في الداخل، حتى من اطراف كانت الى عهد قريب ترفض اي تعامل او وجود للاسلاميين في دوائر السلطة، لكن تونس التي لم تكن على مدى تاريخها جزيرة منيعة وحصينة عن التدخلات الاجنبية، وجدت نفسها بفعل تلك الخيارات، وبالنظر ايضا لتعقيدات اقليمية ودولية اخرى في مواجهة مأزق اضافي، فلا الديمقراطيون الذين هللوا للتوافق الاسلامي العلماني حولوا خطابات دعمهم إلى اوراق قابلة للرواج في سوق الصرف المالية، ولا الانظمة الكليانية والعسكرية قبلت أو رضيت بما يحصل داخل البلد الصغير، رغم انه نظريا لا يملك القدرة والطاقة على تصدير تجربته لها. لم يكن سهلا على الباجي أن يعدل بشكل دراماتيكي قرارات ومواقف اخذها اسلافه في الحكم وانتقدها هو بضراوة في السابق، لان صيغة التعايش مع الاسلاميين فرضت عليه القبول بتقديم بعض التنازلات، بل حتى الاقدام على ما وصف بتعديل السياسات، من خلال الاعلان عن صيغة للاعتراف المزدوج بحكومتي ليبيا، بدلا من الاعتراف فقط بحكومة طبرق والمضي في المقابل لاعادة فتح القنصلية التونسية بدمشق عوضا عن اعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين الى سالف عهدها. لكن النتيجة كانت غضبا في الجزائر بعد توقيع مذكرة تفاهم مع امريكا وتوترا ملحوظا مع طرفي الازمة في ليبيا؟، ثم ازمة صامتة تحولت لازمة معلنة في العلاقات مع دولة الامارات. أما الإشكال الحقيقي الذي عقد الامور فهو أن العرب لم يعتادوا بعد على حلول وسط في فض الازمات، أو حتى في ادارة الشأن العام، ولاجل ذلك لم يفهم الكثير منهم علاقة الحكام الجدد بالاسلاميين، الا من خلال منطلقاتهم وتجاربهم ووفقا لرؤية سطحية محدودة ترى أن مجرد فسح المجال، ولو بشكل ضيق امام من يعدون اعداء ازليين للسلطات سوف يجر الوبال والخراب ويؤذن بفقدان سيطرة مطبقة ومستمرة على الدولة. فالاختلاف الفكري والايديولوجي والسياسي بذلك المعنى لا يؤدي الا الى مسلك واحد، وهو شن حرب مفتوحة لمحق الخصوم وازالتهم نهائيا من الوجود. والمثال المصري هنا هو المرادف الاكثر تعارضا وتضادا مع التجربة التونسية. ويطرح ذلك المثال بالذات عدة استفهامات بشأن طبيعة الحواجز التي تمنع المؤسسة العسكرية الحاكمة في مصر من ابداء قدر من الليونة والانفتاح على من تعدهم اعداء لها، وعلى راسهم الاخوان، واستمرارها في سياسة الارض المحروقة واعتماد اسلوب العقاب الجماعي وتقسيم المصريين الى موالين طائعين صاغرين ومعارضين متهمين وملاحقين ومشردين وعما اذا كان الوقت لا يزال مبكرا للتفكير بمصالحة داخلية تبعث بعضا من الامل والهدوء في نفوس المصريين.
أليس ممكنا ولوعلى نطاق محدود أن يتأثر الجنرال السيسي بدهاء وخبرة الرئيس السبسي، الذي استطاع رغم كبر سنه أن يكون وفيا بعض الشيء لعصره؟ صحيح أن تونس تواجه اليوم وضعا معقدا وضبابيا، وألا احد بامكانه التنبؤ بقدرة البلد على الاستمرار في سياسة التوافق في حال غياب السبسي او اختفائه من المشهد السياسي لاي سبب من الاسباب، وصحيح أن تجربتها لا تمتلك حتى الان قدرا كبيرا من الصلابة ووضوح الافق، ولكن حقن الدماء والحفاظ على الارواح يبقى في كل الحالات افضل من الانسياق الاعمى وراء عمليات القتل والتنكيل الجماعي التي تحصل يوميا في مصر.
لقد ردد قائد السبسي على مسامع الجنرال السيسي في مؤتمر صحافي مقتضب عقد في القاهرة الاحد الماضي مثلا عزيزا على الحكام العرب، وهو أن «اهل مكة ادرى بشعابها،، واضاف أن تونس تتمسك بعدم التدخل في شؤون الدول الاخرى لكنه لم ينس بالمقابل أن يشكر السيسي على ما وصفه «بوطنيته الصادقة وتفتحه على تفهم اوضاع دول الجوار وعدم التمسك الضيق بالرأي». وبالطبع لم يعرف احد إن كان الرئيس التونسي صادقا في ما قاله؟ أم انه قصد العكس تماما ولكن المؤكد أن الرجلين ناقشا معا المتغيرات السريعة التي حصلت في الشهور الاخيرة في منطقتهما وتبادلا الافكار حول التعامل مع ما يعرف بالاسلام السياسي في بلديهما. اما هل نجح السبسي في اقناع الطرف الاخر بتليين مواقفه والقطع مع اسلوبه المعروف فذلك يبقى رهين عدة عوامل، أولها اقتناع السيسي بالحاجة إلى إدخال تغيير جذري على رؤيته وتصوره للصراع السياسي، يضمن حفاظه وحفاظ المؤسسة العسكرية على مكاسبها ومواقعها في السلطة ووجود ضغط داخلي واقليمي يجعله مجبرا على قطع خطوة نحو تحقيق الوفاق والمصالحة الداخلية.
والمؤكد انه متى حصلت تلك القناعة وذلك الضغط صار موعد اقرار مصري اخر حتى رمزي ومتأخر ومختلف بالطبع عن الاقرار التونسي للسبسي في ذكرى صدور مدونة الاحوال الشخصية أقرب مما اعتقد البعض، لأنه سيقود بالنهاية وفي كل الاحوال الى تحقيق غاية عزيزة على المصريين هي الوئام والسلام الداخلي المفقود في بلدهم.
كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
رأيك يا سيد هنا غامض،لا نعرف انك مع السيسي او السبسي،او الإسلاميين المعتدلين،او ماذا،
مقال جميل
الفارق شاسع جدا بين السبسي و السيسي..الأول رئيس مدني واقعي تعلم كثيرا من الأزمات التي مرت مع الاسلاميين في عهدي بورقيبة و بن علي..و الثاني رئيس عسكري يؤمن بالقوة و ينتهج سياسة * تغطية الشمس بالغربال *و يظن أنه قادر على اقصاء ثلث الشعب المصري الشيء الذي عجز عنه أسلافه…يجب أن تسود فكرة المواطنة و التعايش السلمي بين الفرقاء السياسيين جميعا دون استثناء مع اعطاء الشعب حرية اختيار من يسوسه و الابتعاد عن الاقصاء و الرفض البغيض و العودة الى العمل البناء لصالح البلاد و العباد..
لا اعتقد ان المقارنة سليمة فالفرق كبير بينهم , السبسى رجل سياسى يستطيع التوافق و البحث عن حلول وسط , اما السيسى فعسكرى لا يعرف الا الهزيمة او الانتصار فلن يبحث عن حلول وسط .
في مصر و تونس لم يتغير أي شيء ، ما عدا إزالة رأسي الحكم السابقين …”و كأنك يا أبو زيد ما غزوت”!
سيدي من أخبرك ان المصريين لا يعيشون الان في وئام وسلام ، نحن في غاية السعادة للتخلص من حكم الاخوان الإرهابي ومهما فعلوا فلن نقبلهم مرة اخري