كان يا ما كان في حديث الزمان، طالب متفوق ارتقى درجات التميز بسرعة الصاروخ فبرهن لمن يحتاج إلى برهان أن الجمهورية الفرنسية ونظام التعليم فيها تحديدا لا يزالان قادرين على إعطاء مقولة «من جد وجد، ومن زرع حصد» معنى قويا.
ها هو إيمانويل ماكرون، ابن مدينة أميان، ابن المحافظات وليس الوسط الباريسي الموصوف بالمغلق، تنقل من المدرسة العليا الفرنسية للإدارة، إلى موقع كبير منسقي «تقرير النمو» تحت إشراف المستشار الحكومي المعروف جاك اتالي، اتالي الذي عمل أثناء حكم فرانسوا ميتران أساساً، وخلال ولاية نيكولا ساركوزي أيضا ضمن فريق «مستشاري الظل».
لإيمانويل ماكرون مسيرة مهنية لا كبوة فيها ولا عثرة، انطلقت من منصب تنسيق تقرير اقتصادي عن النمو المستديم في فرنسا، تقرير ذاع صيته في أوساط خبراء الاقتصاد في البلد ونشر للجمهور، فتواصلت مسيرة الرجل بالعمل مصرفيا لمؤسسة «روتشيلد» الشهيرة – وهو ما يؤاخذه عليه البعض لتوجيهه اتهام جهل الشعب، فتولى وزارة الاقتصاد «بيرسيه» مرورا بمرحلة الأمين العام المساعد في الإيليزيه في بداية ولاية فرنسوا أولاند.
كرس إيمانويل ماكرون عصارة ما نسميه هنا «الفضل الجمهوري» أي المقدرة على تخطي عتبات الترقي بالكفاءة والعمل الدؤوبين، بعيدا عن منطق الوساطات والشبكات والدعم والمساعدات.
كان يا ما كان في أحدث الأزمنة، فترة لا يبعدنا عنها سوى …عام واحد 6 نيسان/أبريل 2016 تاريخ تأسيس حركة «ان مارش» حركة وليس حزبا، سابقة في المشهد السياسي الفرنسي توخت القطيعة مع النمط السياسي الكلاسيكي التقليدي الذي أودى بالكثيرين إلى العزوف عن السياسة في رفض لمنطق التحزب
على حساب الالتزام.
إيمانويل ماكرون حامل شعلة التجديد في سياق انتخابي طالته سوابق ومفاجآت لسنا في مأمن من العثور على مثيلاتها في القادم من الأيام. ولأن درجة الاستفهامات أعلى بكثير من فرص النيل بأجوبة مقنعة، تتكاثف المحاور التي تدور حولها تحديات الرجل الشاب.
أولها مدى قدرة مترشح يعتبر وريثا لـ«نظام» و«ابن فرانسوا أولاند الروحي» على الإتيان بالبرهان القاطع أنه قادر فعلا على تجديد الساحة السياسية الفرنسية قلبا وقالبا. هذه نقطة جوهرية يقف له فيها بالمرصاد أكثر من واحد.
ومن فروع تحدي التغيير الأساسية المطروحة على ماكرون التواصل مع الطبيعة المطلبية لالتماسات الشعب الفرنسي. هذا يمر أولا عبر قدرة مؤسس حركة «إلى الأمام» على تقديم أدلة امتلاكه الحنكة وهامش المناورة الكفيلين بالتصدي لمشاكل الناس الملموسة التي تحتل فيها معضلة الوظائف ومناصب الشغل موقعا أساسيا، معضلة تطرح في سياق تسعى فيه العولمة إلى فرض مبدأ نقل خدمات الشركات إلى الخارج كواقع مسلم به. ولا أدل على الصعوبة التي يواجهها ماكرون في التواصل مع أبناء الطبقة العمالية، زيارة قليلة التنظيم قام بها أخيرا إلى مصنع آلات الغسيل المعروف «وايربول» في مسقط رأسه أميان، كان بالإمكان التخطيط لها والتحكم في تفاصيلها لو استبقت أطوارها، سلفا.
هنا يظل مأخذ القطيعة بين النخبة والشعب عقبة كأداء في وجه ماكرون، هو الذي طال به أمد زيارة أهل المحافظات في زخم أعطى الانطباع أن لا شيء صار يعلو على باريس في تقديره، هو أيضا الذي لا ينسى كثيرون نعته شريحة من أبناء الطبقة العمالية بالـ «أميين» وان اعتذر فيما بعد عن زلة لسان وقع فيها أثناء مقابلة إذاعية كان يدعو فيها إلى محاربة الأمية.
كما سيتعين على ماكرون مجابهة تهمة «الإفراط في الليبيرالية» التي تصاعدت أثناء صياغته القانون الذي يحمل اسمه واشتهر فيه بتحرير قطاع النقل بنتائج متباينة في نظر كثيرين.
ويبقى أكبر تحد في حالة وصول الشاب ماكرون إلى سدة الحكم بعد أقل من اسبوعين – وهو ما يقع في دائرة الاحتمال الشديد- قدرته على تأمين أغلبية برلمانية تؤهله للحكم فعلا. لقد أكد ماكرون وبإصرار شديد عدم رغبته بتشكيل «حكومة تدوير» تتلاقى فيها وجوه سياسية معتادة مألوفة لا تتقمص الوجوه الجديدة إلى جانبها إلا دورا شكليا يسهم بوضوح في إعادة إنتاج وصفات وممارسات أكل عليه الأخضر واليابس واعتبر المواطن نفسه منها بريئا. بإرساله لماكرون رسالة قوية تتمثل في إسناده المرتبة الأولى في تصويت الدورة الأولى، يريد المواطن الفرنسي إثبات نفسه خارج مدار الأحزاب ومهنيي السياسة، وخير ممثل هذا المطلب الجوهري المجتمع المدني… فالمجتمع المدني الفرنسي من صارت بيده المفاتيح. وأكثر من أي وقت مضى. أولم يؤكد إيمانويل ماكرون أن وجوها جديدة، لم يكشف منها سوى النزر اليسير، ستظهر على الساحة وستحمل شعار التجديد بما لا يترك مجالا للارتياب؟
لكن أم الأسئلة: هل ستكون هذه الوجوه قادرة على تشكيل الأغلبية البرلمانية الكفيلة بممارسة حكم لا يخضع لديكتاتورية التحالفات التي قد تشل البلد؟
لقد استبقت بريطانيا ما تمر به فرنسا هذه الأيام ثم خرجت من الإتحاد الأوروبي لتفرض سيادتها دون إملاءات خارجية لذلك طلب أولاند تغريم بريطانيا بعد مغادرتها الإتحاد.
فرنسا تركت مصانعها للصينيين بعد أن سرحت آلاف العمال ولكي لا تسقط بالضربة القاضية للأزمة الإقتصادية عملت وتمسكت بالإتحاد الأوروبي الذي يتململ معظم أعضائه.
المرشحان للرئاسة جلب كل منهما أصواتا أوصلته للدور الثاني بعد سقوط البقية.
خلال ما تبقى من مدة لا بد من مناظرة تلفزيوني توضح للرأي العام الفرنسي وضع فرنسا الحقيقي الذي تمر به الآن. ومن سيُقنع منهما خلال المناظرة سيفوز يوم سبعة ماي.