همنغواي ضد «داعش»

لدى الأمم التي تعشق الآداب وتسمو بأرواحها نحو قيم الجمال الرحبة، تغدو الكتب ذات دلالة رمزية زمن الأزمات. باريس القلب النابض لثقافة الأنوار التي أصيبت في أعماقها تجد اليوم نفسها تبحث في أرشيف الصفحات بين ملايين الكتب ضد الهمجية والتتار دفاعا عن نفسها، ضد القتل المجاني الذي لا يميز بين الرضيع والشيخ والمرأة.
في ظل هذا البحث يطالعنا كتاب ارنست همنغواي «باريس هي الحفلة» الذي يتحدث عن الحياة المتسكعة والفقيرة والسعيدة للكاتب، وزواجه الأول في باريس ودوائر وصخب المثقفين، باريس الأنوار التي تمنح حضنها الدافئ للكتابة والإبداع وللعقل، على طول الكتاب يغدو العنوان كجملة مشتركة ومشاعة بين الجميع، على حد تعبير همنغواي «باريس حفلة تتبعنا». بهذه العبارة الرمزية وهذه الدلالة العميقة أقدمت دار نشر على طباعة عشرين ألف نسخة خلال أقل من أسبوع في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 من الكتاب لتنفذ ويطالب القارئ في فرنسا بنسخ أكثر. هو بيع رمزي ضد آلة القتل الداعشية التي زرعت الرعب والخوف، في حين زرع ويزرع كتاب همنغواي المحبة الدائمة، والتسامح المبني على طعم إنساني.
هذا الموقف تم تبنيه بوعي مضاد ضد هجمات «شارلي إيبدو» حينما تم استحضار فولتير كشخصية مركزية في الأدب الفرنسي، حين أعيدت طباعة بعض أعمال فولتير وبيع منها 165ألف نسخة في فرنسا.
إذ أن فرنسا المؤمنة بقيم الحرية والعدل تواجه الظلامية بالكتاب فإننا في العالم نواجه العنف بالعنف وبالأحكام المسبقة والدوغمائية وبالمزيد من التضليل وتشويه الحقائق.. يغدو ابن رشد أرعن وفارغاً من عقلانيته، ويبدو تيار العقل الحداثي خارج المسارات العقلانية، ويبدو الدين القوة الأكثر فعالية وانفعالا في تحريك سيكولوجية الجماهير.. ذاك هو عالمنا العربي… وننسى أن هناك كتبا وجب أن تتذكرها الأمم في لحظاتها الصعبة والشدائد، وتبحث فيها عن قيمها وأصالتها، لم تذكر باريس في كتاب همنغواي أنه ليس فرنسيا ولاينتمي للأمة الفرنسية، بل هو مجرد إنسان أحب أضواء باريس في بداية العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي قبل أن يسطع نجمه، مثله آلاف القادمين بحثا عن الحياة من العازفين والفنانين والكتاب أحبوا باريس في نسخها الثقافية التي تمجد العقل والتنوير وتدافع عن الزمن الجميل… كثير من الكتاب العرب مروا بباريس وتشبعوا بثقافتها وعادوا إلى بلدانهم، ولكنهم لم ينسوا الحلم الباريسي.
الاحتفاء بكتاب همنغواي وتحويله إلى أيقونة معرفية في وجه التطرف والبربرية، هو احتفاء بالإنسان المحب للسلم والمدافع عنه… كان الرئيس الأمريكي ويلسون وهو يسعى إلى تأسيس عصبة الأمم منغمسا بكل جهده وقوته في إقناع الآخرين بأن السلم هو برنامج لا يتحقق إلا بتفهم ومشاركة الآخرين، وظل على هذا النحو مناضلا حتى أصيب بالشلل… معتقداً أن فعل الكتابة أقوى من لعلعة الرصاص.
ما يستلهم من كتاب همنغواي هو تلك الروح البريئة التي تحتفي بالإنسان.. في إحدى الجمل البليغة من الكتاب يقول همنغواي «حينما يستمر المطر في قتل الربيع، فهو مثل شخص شاب يموت بلا منطق». لكن يضيف «في تلك الأيام وبأي الأشكال، يعود الربيع دائماً شيئاً فشيئاً».
في هذا العزاء المشفوع بالمواساة يطرح سؤال مركزي كيف فقس بيض «داعش» في باريس نسوراً كاسرة لا تهاب الموت؟
وكيف استفاقت «داعش» بين ليلة وضحاها بين بغداد ودمشق؟
كان همنغواي يحتج في كثير من كتاباته عن طريق شخصيات تتناسل حكمة وروعة، ولكن الحياة أعيته بأثقالها بعد الكثير من المآسي ومشاهد الدمار، فلم يجد بداً من بندقية مزدوجة يختم ويضع بها حداً مروعاً لحياته. هل تسعف الكلمات في محاربة «داعش»، بعدما أصبحت فعلا في اللغة العربية «داعش» يداعش مداعشة واقترن هذا الفعل بالدمار والخراب… مادام ابن رشد حياً فينا فهناك على مر التاريخ العربي أزمات تحضر وتختفي بألوان مختلفة وآيات شيطانية لن تكون «داعش» إلا واحدة من سلاسل طويلة ومن بذور التطرف المزروعة في حقولنا الجرداء… يجب التصدي لها بسلاح التنوير والاستخدام الجيد للعقل وبالكتاب الذي نقدمه للأمم كعربون حب وسلام.. عنوانه: كتاب الحب..

كاتب وناقد سينمائي من المغرب

عبدالله الساورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول R. Ali:

    همنجواي ضد داعش وشاكسبير و تشارز دكينز و بودلير و فولتير “الفرنسي” و فاسكو داجاما مكتشف القارة الامريكية! الكل ضد والكل يتعامل مع داعش!

إشترك في قائمتنا البريدية