بيروت – نور صفي الدين: لا يحلمون عبثًاً. الحلم بالنسبة اليهم جزء من سعادة مؤجلة. تلك التي تعيش أكثر عندما تستغرق وقتاً أطول لتحقيقها. ففي ببعض الأحيان لا يحقق كثر أحلامهم بتعلم العزف على العود، أو امتلاك «غيتار»، أو الوقوف على خشبة المسرح، منذ الطفولة. يطوونها في جيوب قلوبهم، ويحييونها ولو بعد حين.
في حديث عابر نسأل دوماً عن هواياتنا. الهواية النابعة من الرغبة في شيء. يعتقد البعض ممن لديه هواية ما، بأن الاجابة على هذا السؤال بسيطة. لكن كيف؟، سيما أن البعض يطمح لتحقيقها فقط، ولم يمارسها من قبل. ويتمنى بأن يسأل يوماً عنها ليجيب دون تعقيد أو ارتباك، أنه يمارسها وليست إبنة الحلم.
بدأت حكاية مصطفى، وهو شاب في منتصف العشرينات، مع الموسيقى منذ طفولته. يروي بعفوية عن تجاربه الاولى، «كنت فور وصولي عند رفاقي الذين يملكون آلات موسيقى أجلس خلف البيانو. أبدأ بالنقر على مفاتيحه. كنت أجد متعة لا توصف»، يقول بحماسة.
لم يكن ينوي مصطفى، الذي كان يمضي معظم أوقاته بين الجامعة والعمل، التعلم على العزف غير أن الفتاة التي ربطته بها علاقة عاطفية منذ أربع سنوات كانت دافعه للتفكير في ممارسة هوايته فعلياً وبمواظبة تامة. على عكس ما تمنى في طفولته. لم يقع خياره على البيانو، لأنه وجد في أنه قد تأخر جداً. حبه «الكبير»، كما يصفه، للموسيقى الشرقية وتأثره بعازف الأجيال محمد عبدالوهاب، الذي يقتدي بألحانه، هو ما دفعه إلى عالم العود.
لم ينته ولع مصطفى بالموسيقى عند حد التعلم. صار الشاب منقباً يومياً عن مقطوعات نادرة. أسس لنفسه أرشيفاً يضم معلومات حول تاريخ المقطوعات الموسيقية وظروف ظهورها. يصف علاقته بالعود فيسميه بـ»الحبيبة» التي يتمنى وصلها بعد الفقد. يتحدث بتأثر، يقول: «العود قلب وصدر. حينما تتحسس أوتاره فأنت تغازله. والعود يشعر بك. يعطي لهذه الحركة صوتًا وصدى».
قصة مصطفى لا تشبه ما مر به علي. الشاب العشريني الذي بقي هاجس التعلم على «الغيتار» في قلبه. يقول: «كنت أهوى الغيتار قبل أن رؤيته ملموساً بين يدّي. وبقيت اضع حول رقبتي سنسالاً مربوط به مجسم صغير لغيتار. إلى أن جاء اليوم الذي رأيت فيه غيتارًا حقيقيًا فابتهجت. أمسكته كأني أنتظره منذ زمن».
يقول علي أنه عمل مدة شهر كامل، ليوفر المال لشراء غيتاره. حيث يواظب منذ سنتين على العزف عليه والتدرب يومياً، من خلال مشاهدة «بروفات» عملية عبر موقع «يوتيوب». فهو لا يستطيع أن يخصص مالاً ليتعلم العزف.
يضحك «أبو الغيتار»، كما يلقبه احد رفاقه، عند سؤاله ان كان يريد امتهان العزف، يجيب بحسم: «أريد أن أكون ملك الغيتار. لكني لن أعزف الا للذين أحبهم. فالموسيقى هي الكلمات التي أعجز عن التعبير عنها». يظهر الحزن جليًا في عيني علي،الذي رأى في الموسيقى تحديًا لوحدة يعيشها في مجمتع اعتاد أن يرى أن كل ما ليس له علاقة بالعبادة هو انحراف عن القيم. يقول: «عندما كنت أمشي وأحمل الغيتار على ظهري كان أبناء الضيعة ينعتونني بالمجنون. هذا ما زاد في اصراري للتعلم». تمنى علي لو أنه تعلم العزف منذ الطفولته، «ربما كنت حصلت باكراً على صديقي الأبدي».
هناك رابط بين الفن والألم لدى معظم شباب المخيمات الفلسطينية. غير أن هذا الرابط بالنسبة لمهند الذي يعيش في مخيم في صور (جنوب لبنان) يختلف قليلاً. فاذا كان اللجوء للعزف هو وسيلة للتخفيف من الألم أو التعايش معه فان التمثيل بالنسبة لمهند هو طريقة تعريف بالقضية الفلسطينية ومعاناة اهلها خارج أرضه.يقول:»بعد أن تركت المدرسة في عمر الثانية عشرةتعرفت إلى الفنان المسرحي عبد عسقول. قمت بتجربتي الاولى على مسرح القدس في مخيم الرشيدية. شاركت من بعدها في سيرك داخل المخيم. كانت اللذة عظيمة في أنني تمكنت من رسم ضحكة على وجوه ناس يشيخون صغاراً».
يعمل مهند في محل للحلويات الشرقية، مدة 12 ساعة يومياً، لكنه على الرغم من التعب لا يهمل هوايته. يتنقل من مكان إلى آخر بحثًاً عن فرصة. كانت الاخيرة على خشبة «مسرح الحمرا» في صور، الذي يشرف عليه الفنان قاسم اسطنبولي. شارك في بطولة مسرحية «في انتظار غودو». يحس مهند بكل خيبة المجتمع الفلسطيني المفكك وهجرته، وبخيبته ايضاً ان لا أحد يكثرث لموهبته. فالمجتمع داخل المخيم لا يرى في التمثيل فائدة، وفق ما يقول. كذلك هي حال عائلة مهند التي تقنعه دوماً بضرورة الزواج والتخلي عن التمثيل، لكنه يرفض التنازل عن هوايته،»أتحدى ضغوط العائلة والمجتمع. التمثيل هو الحياة لي».