هوس الأماكن

من الأماكن السياحية المهمة، في مدينة بورتو التي تقع في شمال البرتغال، والتي يغشاها السياح بكثافة في أي وقت، وتدر عائدا كبيرا، مكتبة ليلو، وهي مكتبة قديمة أنشئت منذ القرن الثامن عشر، وصممت بطريقة غريبة، لكنها كانت تمارس نشاطها حتى عهد قريب بعادية مطلقة، أي أنها تعرض الكتب بمختلف توجهاتها، قد تبيع بطريقة جيدة، وقد تظل بضاعتها راكدة في رفوفها. هكذا.
والذي حدث أنها قررت فجأة منذ ثلاثة أعوام، استثمار كونها المكان الذي ابتدأت منه حكاية هاري بورتر، ذلك الساحر الأسطورة، الذي اخترعته الروائية البريطانية، كي. جي. رولينج، وانطلقت به إلى كتابة ناجحة بصورة لم يسبق لها مثيل.
وكلنا بالطبع يعرف تلك السلسلة المتدفقة من حكايات هاري بوتر، التي كان ينتظرها الناس بمختلف أمزجتهم وأعمارهم، وتصبح ساعة إطلاق أي كتاب جديد منها، ساعة زحام وتدافع، وشغف عظيم للحصول على نسخة، ولتصبح مدرسة اللغة الإنكليزية رولينج بعد ذلك، كاتبة أسطورية، لدرجة أن يباع الكرسي الخشبي البسيط، الذي كانت تجلس عليه في بداية عملها بالكتابة، بمبلغ ضخم لا يحلم به أي كرسي آخر، لكاتب آخر في أي زمن. وقد كتبت مرة عن ذلك الكرسي، وتخيلت شعور النجار الذي باعه بمبلغ زهيد لامرأة شابة، حين يعرف بسعر بيعه الجديد.
المعروف أن رولينج عاشت في تلك المدينة، أي مدينة بوردو، فترة من الوقت، واستوحت بعض ملامح المكتبة، في كتب هاري بوتر، وكان لا بد من استثمار تلك الهبة البسيطة التي منحها شكل المكتبة للكاتبة، في تحويل المكتبة إلى مزار سياحي، يدخلها الزوار بتذكرة معينة، ويتجولون في مساحتها التي ليست واسعة كثيرا، وقطعا يشترون نسخا من هاري بوتر في كل اللغات التي ترجمت إليه، أو من أي كتب أخرى.
إذن نحن في مكان خلدته الكتابة من دون أن تدري، وهناك أماكن كثيرة، كتبت في حقها مجلدات ولم تصبح أماكن خالدة على الإطلاق، هناك بيوت ومطارات ومدن، جرت فيها أحداث روايات خيالية، لم تكسبها طعم الجذب الكبير، بحيث يزورها الملايين ليستنشقوا عبير الكتابة عنها أو يشاهدوا ما رصدته الكتابة بشأنها حيا ومدهشا، أو حيا ولا يملك أي دهشة.
إنها المصادفة البحتة لمكتبة ليلو، المصادفة ليست في أن ملامحها تم إدخالها في نصوص كتابية، بل أن تلك النصوص غدت من أساطير الكتابة.
وهناك كتاب أيضا أنشئت لكتبهم وسيرهم، متاحف بعد وفاتهم، غدت أماكن جذب بالتأكيد لزوار المدن التي توجد فيها، مثل متحف كافكا وشكسبير، وكثيرين آخرين، لكن ليس بصورة مكتبة ليلو، في مدينة بورتو البرتغالية، التي ارتفع عائد استثمارها السنوي إلى ملايين الدولارات، بسبب كتب كان من الممكن أن لا تنجح أبدا، أو تنجح ذلك النجاح العادي، الذي يعرفه عشاق القراءة فقط.
لقد تحدثت من قبل عن الهوس، ليس في المسألة الكتابية، والقرائية فقط، ولكن في مجالات كثيرة مثل السينما والمسرح، وكرة القدم، وحتى مجالات بعيدة عن الإبداع مثل تربية الطيور والنحل وغير ذلك. ولأن الهوس من الأمراض أو لنقل من تبعات الحياة الثقيلة، التي بلا دواء، يسهل استثماره، ويمكن أن يدر الملايين لأصحاب صنعة، يتحاوم حولها الهوس، ولعل كرة القدم من تلك الحرف التي تتسيد مسألة الاستثمار ذلك.
وأذكر أنني زرت مرة ملعب سانتيرو، في مدينة ميلانو الإيطالية، لم أكن مهووسا بكرة القدم، ولا من عشاقها على الإطلاق، ولا أذكر أنني جلست متشنجا أتابع مباراة قط، لكن أحد أبنائي، أصر على زيارة الملعب، وكان أن عثرنا على صف طويل من السياح، يقفون أمام شباك للتذاكر، وعشرات الموظفــــين، والمشرفــين وحراس الأمن، وفي نظراتهم ما يشبه التباهي، كأنهم يحرسون جوهرة.
كان الملعب، مكانا عاديا للغاية، ملعب صغير فيه مدرجات في كل الجوانب، تماما مثل استاد الخرطوم، أو دار الرياضة، في مدينة بورتسودان، مع الفرق في وجود الجانب الاستثماري للهوس بكرة القدم، ونجومها الإيطاليين، حيث يمكن أن تحصل على صور موقعة للاعب ما، أو حتى تلتقط صورة مع تمثاله المجسد، أو تتأمل حذاءه، أو تقف مبهوتا، تقرأ تاريخه، منذ أن كان ضالا في الشوارع، يلعب بالحصى والتراب، حتى غدا نجما متألقا، في تلك اللعبة الشعبية، وكل ذلك تدفع ثمنه بلا شك.
سانتيرو أصبح مكانا خالدا أيضا، هذا خلدته اللعبة الأكثر إثارة للأعصاب في الدنيا، وهناك ملاعب غيره بلا شك، لم تأخذ شهرته، لكنه الحظ مرة أخرى، تماما مثل الحظ الذي جعل هاري بوتر، يملك تلك العلاقة بمكتبة ليلو البرتغالية.
أظن من الشروط المهمة أن يصبح المكان خالدا، وقابلا للاستثمار فيه، هو خلق الهوس الذي ذكرته، بمعنى أن تصنع للمكان أسطورة خاصة، وتزرعها في عقول الناس، وذلك يأتي بتكثيف الدعاية، بجعلها تنبع من المكان وتصب فيه، بتخصيص مبالغ كبيرة لتلك الدعاية، وبالتالي ينجح المشروع، ويأتي بعائده. ولولا ذلك، لكانت كثير من الأماكن، اتخذت وضعها كنقاط هوس في المدن التي توجد فيها.
بالنسبة لنا في الوطن العربي، نسمع دائما عن كتاب كانوا يجلسون للكتابة أو القراءة، أو النقاشات، في مقاه معينة، على طاولات لم تتغير حتى رحلوا، قد ينتابنا الفضول لرؤية تلك المقاهي، والطاولات، وقد لا ينتابنا شيء، وبالتالي لا نربي دهشة ما ولا نحول طاولة لأديب كبير إلى أسطورة.
في النهاية، هاري بوتر، كتابة تحولت إلى أسطورة، مثلما تحولت الخيميائي لباولو كويلهو، وتلك الروايات التي كتبها الأفغاني خالد حسيني عن بلاده في ظل حكم الطالبان.

٭ كاتب سوداني

هوس الأماكن

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية