هويات تصل متأخرة

حجم الخط
3

كان جون ريث (1889 ـ 1971) أول مـــــدير عـــام لمؤسسةالـ BBC، وإليه يُعزى مفهوم خاصّ في الإعلام الإذاعي ينهض على انحياز جلي للقطاع العام، مع تشديد على وظيفة الإذاعة في إغناء الحياة الفكرية والثقافية للأمّة. وفي سنة 1948، على سبيل تكريم شخص هذا الرائد، وذكراه، أطلقت الإذاعة تقليداً سنوياً بعنوان «محاضرة ريث»، يستضيف مثقفاً بارزاً لإلقاء سلسلة محاضرات حول موضوع محدد.
المحاضرة الأولى ألقاها برتراند رسل، في موضوع «السلطة والفرد»؛ والأسماء التي تعاقبت كان في عدادها أرنولد توينبي، 1952، حول «العالم والغرب»؛ وروبرت أوبنهايمر، 1953، حول «العلم والتفاهم العام»؛ وجون كنيث غالبريث، 1966، حول «الدولة الصناعية الجديدة»؛ أمّا حظّ العرب فقد اقتصر على إدوارد سعيد، 1993، في موضوع «تمثيلات المثقف».
في السنة الماضية، أُسندت المهمة إلى كوامي أنتوني أبيا، الفيلسوف والمنظّر الثقافي والروائي، الذي ولد في بريطانيا ويحمل جنسية غانا والولايات المتحدة، والذي ألقى أربع محاضـــرات بعنوان «هــويات مغلوطة»، تتناول اللون والبلد والعقيدة والثقافة (وعن سابق قصــد، بالطــــبع، بــــدأت عناوين محاضراتــــه في الأصل الإنكلــيزي، بحرف الـ C: Colour, Country, Creed, Culture). وقد بُثّت المحاضرات خلال تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) عبر أربع مدن، في لندن وغلاسغو وأكرا ونيويورك؛ ونُشرت مؤخراً، كالعادة، على موقع الـ BBC ووسائل إعلام أخرى.
يقول أبيا: «نعيش في عالم تهيمن عليه لغة الهوية على حياتنا العامة والخاصة معاً. نحن مسلمون ومسيحيون، ولهذا لدينا هويات دينية. نحن إنكليز وسكوتلنديون، فلدينا هويات وطنية. نحن رجال ونساء، فلدينا هويات جنسية. ونحن سود وبيض، فلدينا هويات عرقية. وثمة الكثير من التنازع حول الحدود ما بين كلّ هذه الهويات. ولن يقرّ كلّ الناس بوجوب أن تكون رجلاً أو امرأة، أو لا تكون أياً منهما. أن تكون إنكليزياً أو سكتلنديا. أو ألا تزعم الانتماء إلى أي دين أو جنس أو عرق. وقد يصدّقك أحد ما، في كلّ حالة. وهذا هو السبب في أنّ حديثنا عن الهويات يمكن أن يكون مضللاً».
ولعلي أستعيد أبيا على صعيد آخر، هو اشتراكه (مع الباحث والأكاديمي الأمريكي المرموق هنري لويس غيتس) في تحرير «قاموس الثقافة الكونية»؛ الذي صدر سنة 1998، وسعى إلى إنجاز خطوة متقدمة على صعيد هذا المفهوم الغائم، «الثقافة الكونية»، في ميدان الدراسات ما بعد الاستعمارية. ومن الخير أن أذهب مباشرة إلى أربعة أمثلة عمّا يقوله القاموس عن الثقافة العربية الحديثة:
ـ على امتداد القرن العشرين بأسره لا يذكر المحرّران من أدباء اللغة العربية سوى طه حسين، يحيى حقي، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، ونوال السعداوي (مقارنة، على الجانب الإسرائيلي، بأسماء مثل عجنون، عوز، أ. ب. يهوشواع)؛
ـ الشعر العربي، الجاهلي والأموي والعباسي والحديث والمعاصر، غير ممثّل البتة في هذا القاموس، وكأنّ الشعر ليس «ديوان العرب»، أو ليس ركيزة كبرى في تكوين الثقافة العربية؛
ـ ثمة انتقائية ضيّقة في التركيز على أسماء حفنة محدودة من «النجوم» في الفلسفة الاسلامية (ابن رشد، ابن سينا، الغزالي)، وإهمال تامّ لمنجزات الكبار من اللغويين والمؤرّخين والأدباء والمتصوّفة (الجاحظ، على سبيل المثال، يُشاد به عرضاً، ولكنه لا يحظى بمادّة مستقلة)؛
وكان الأمر سيبدو طبيعياً لو أنّ محرّرَي الكتاب كانا من ذلك «الرهط» الاستشراقي الغربي الكلاسيكي، الذي عوّدنا على أيّ شيء باستثناء المقاربة المنصفة لثقافات الشعوب «الأخرى». غير أنّ أبيا غانيّ الأصل وأستاذ الفلسفة والدراسات الأفرو ـ أمريكية في جامعة هارفارد، في حين أنّ غيتس أفرو ـ أمريكي ورئيس قسم الدراسات الإنسانية في الجامعة إياها. كلاهما خاضا سجالات طاحنة ضد «المركزية الغربية»، وكلاهما دافعا عن حقّ التابع في إسماع صوته ورواية حكايته، وكلاهما يصنّفان عادة في خندق اليسار!
كذلك كان الأمر سيهون لو أنّ حظوظ الثقافات «الأخرى» تساوت مع حظوظ الثقافة العربية. غير أننا نقرأ موادّ مستقلة عن أسماء أفريقية من الصومال وكينيا وغانا ونيجيريا، وأسماء آسيوية من كوريا وأندونيسيا وماليزيا والباكستان، وطائفة ثالثة من أمريكا اللاتينية… ليسوا أرفع شأناً من الغائبين من ممثّلي الثقافة العربية في العصور الحديثة، بل إنّ بعضهم لا يُقارن البتة بما أنجزته الثقافة العربية في الشعر والرواية بصفة خاصة.
والغبن، في الواقع، لا يقتصر على الأسماء وحدها. الثقافة ليست النتاج المكتوب في الأدب والفنون والفلسفة والعلوم فحسب، بل هي أيضاً التراثات الشفهية والأساطير والعادات والفولكلور الشعبي والأديان، الأمر الذي لا يتردد المحرّران في الإعراب عنه منذ المقدمة. وبمعزل عن ليلى والمجنون (التي يعتبرها المحرّران ملحمة شعبية ذات أصول عربية ـ فارسية ـ أوردية!)، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والمولد النبوي (في طقسه الشعبي المصري تحديداً) وشعائر الصيام والحجّ؛ فإنّ القاموس لا يمحض الثقافة العربية الكثير من مظاهر الإسهام في الثقافة الإنسانية.
ولكن… سبحان من يغيّر ولا يتغيّر!
أبيا في محاضرات ريث، وقبلها في كتابه اللامع «كوزموبوليتيات»، غيره في القاموس ذاك. ولهذا في وسع المرء أن يشمله بالمبدأ العتيق: أن تصل متأخراً…!

هويات تصل متأخرة

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    من العجيب أن أوربا تعتبر ان حضارتها هي حضارة يهودية-مسيحية، أي أنها تحصر الحضارة في الدين فقط وبالطبع تتجاهل الاسلام وحضارته وما قدم للغرب، مع ان قناعتي ان الحضارة هي علم وثقافة قبل ان تكون دينا، ثم إن أوربا الصاعدة على أكتاف الحضارة العربية الاسلامية من الصليبيين في الشرق الذين نهلوا من حضارتنا إلى قرطبة في الغرب التي كانت منارة اوربا كاملة، ولهذا كان لابد من ايجاد سند ثقافي وبحثي لتهميش الجذور العربية الاسلامية للحضارة الاوربية فقاموا باختراع الاستشراق كي يقوم المستشرقون بطمس متعمد لكثير من العوالم الثقافية العربية، ويكون على لسان ” خبراء” في الموضوع كما يحصل حاليا على الشاشات العربية الذين يقدمون ما هب ودب ” كخبير في الشؤون”

  2. يقول خليل ابورزق:

    استطيع ان اتصور ، من ناحية أخرى، ان الرجلين جاهدا كثيرا على ايراد ما ورد من الثقافة العربية. بمعنى ان مثل هذا القموس عن الثقافة الكونية يستند الى عمل فريق كبير من الباحثين ينهلون من الموارد المتاحة و لديهم قناعات راسخة مسبقة.
    بدلا من انتظار الانصاف من غيرنا، حبذا لو كان لدينا من يراجع و يوضح و يغني مثل هذه المؤلفات بلغتها ما مضى منها و ما هو آت.

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    رائع يا أخي صبحي أنت “تنبش” في التراب وتُخرج تبراُ. طبعاً شيء محزن أن نرى كيف يتم دفن الثقافة العربية على طريقة وأد البنات في العصر الجاهلي. ومع أنه لايوجد أي سبب لإعفائهم من المسؤولية الأخلاقية ولكنني أعود وأفكر (وقد قرأنا عن دفن ثقافتنا هذا في المدرسة ولكن حالنا تحول إلى أسوأ) أن مايحزن أكثر هو الطريقة التي نقتل بها أنفسنا وثقافتنا حتى أصبح العيش في الوطن أسوأ من العيش في الجحيم. حتى أنه أصبحت مفقودة أية رابطة جماعية لدينا, هههه من المحيط إلى الخليج, وصار عنواننا هو الاستقواء بالآخرين على أبناء جلدتنا. فأي ثقافة هذه التي يجب أن يعتز بها الآخرين لطالما أن اعتزازنا بأنفسنا أصبح عملة نادرة.

إشترك في قائمتنا البريدية