«القرار الذي يتخذ في واشنطن أهم من الذي نتخذه في دار السلام، ولربما يجب السماح لمواطني تنزانيا بالتصويت في الانتخابات الأمريكية»، هذه المقولة تنسب إلى الرئيس التنزاني جوليوس نيريري.
وعلى الرغم من أن أربعين عاماً مضت على هذه العبارة فإنها لم تصل إلى تاريخ انتهاء الصلاحية بعد، وما زالت الشواهد في أكثر من موقع حول العالم تؤكد صحة هذه الرؤية، وفي منطقة الشرق الأوسط فإن مقولة نيريري لا تقتصر على كونها مجرد رأي سياسي يصطبغ بالسخرية المريرة، لتقترب من تكريسها بوصفها حقيقة يصعب تجاهلها، بل من الخطورة أن يجري تجاهلها عن تعمد وتقصد أو جهل وغفلة.
بمجرد إعلان فوز المرشح دونالد ترامب شهدت بعض الدول العربية انقلاباً سياسياً جذرياً يقوم على أساس تحولات تراجيدية ستشهدها الساحة الأمريكية، وكانت المنطقة معنية هذه المرة بقضايا نوعية جديدة، لم تكن سابقاً على أجندة الترقب العربي لأروقة واشنطن ودهاليزها، فلا القضية الفلسطينية ولا الملف العراقي كانا في مقدمة الاهتمامات العربية هذه المرة، فالرئيس ترامب يأتي ليمثل، نظرياً ودون دلائل واضحة، نهاية للمشروع الأمريكي الذي ارتأى في تنظيمات الإخوان المسلمين بديلاً معقولاً للأنظمة العربية، التي فقدت القدرة على التعامل مع المستجدات الدولية، وتغيرات فرضتها طبيعة التطورات في مجالي الاتصالات والمعلومات، كما أن ترامب يدخل البيت الأبيض بينما تتفاعل الآثار المختلفة لـ»قانون جاستا» الذي يهدد العلاقات الأمريكية – السعودية بشكل خاص.
من المبكر جداً أن تحدث هذه الاصطفافات وجميع النتائج تتحدث عن رياح أمريكية في الاتجاه المعاكس لمشروع كلينتون المتطرف، بخصوص إعادة هندسة المنطقة ككل، فبينما تحدث الكثيرون عن علاقة وطيدة ستربط بالضرورة مصر بالرئيس ترامب، على خلفية لقاء بروتوكولي جرى بين الرئيس المصري والمرشح للرئاسة الأمريكية في ذلك الوقت، فليس هناك ما يوحي بوجود دلائل قوية على حدوث ذلك، وعلى الرغم من أن المخطط الجمهوري كان يركز على خريطة جديدة للشرق الأوسط في الجانب الآسيوي من المنطقة العربية، إلا أن ذلك لم يكن يعني استبعاداَ لمصر والدول العربية الأخرى في الجانب الأفريقي، فالظروف كانت تضع القابلية للتداعي في الشرق في ظل فسيفساء طائفية وعرقية أكثر حدية مما هو الحال عليه في الغرب.
أتى الربيع العربي مندفعاً بالتحضيرات الكبيرة للجمهوريين، ووجد أرضيته الخصبة مع تهالك الأنظمة في الجانب الأفريقي حيث تتعمق أزمات الفقر والبطالة، وكانت سخرية جمال مبارك من موقعه رئيساً للجنة السياسات في الحزب الوطني في مصر من شباب الفيسبوك عنواناً للانفصال الكامل للنخب الحاكمة عن الواقع ومعطياته، وما زال قيد ذاكرة اليوتيوب إجابة مبارك الصغير (طب ردوا انتوا بقى عليه ده!) وطالب أيضاً مراسل «الجزيرة» وقتها حسين عبد الغني بالرد لأنه من موقعه (الآمر الناهي) في مصر يترفع عن الخوض في هذه الجزئية، ولكن الرد على تساؤل الصحافي الذي تمكن من أن يرى أبعد من أنف السلطة، أتى قوياً وحاسماً ومتسماً بكل العناد والغضب في ميادين مصر، والتحرير كان رمزاً، فالواقع أن مصر كلها كانت برسم الانهيار، ويمكن أن يوضع بكثير من الثقة تاريخ السادس من سبتمبر 2008 مع سقوط صخرة مهولة من جبل المقطم لتسحق المئات من البسطاء في حي الدويقة الذي يرمز بدوره لعشوائية عصر مبارك.
الديمقراطيون تسلموا المبادرة بعد سلسلة من التداعيات في المنطقة العربية، وكان واضحاً أن الخطة الأصلية لم يضعها الديمقراطيون ولكنهم استثمروا الأحداث لمصلحتهم، وربما لا يحتاج الأمر لكثير من الذكاء والنباهة لتقدير طبيعة تبعية الملف العربي لوزيرة الخارجية وقتها هيلاري كلينتون، وذلك بسبب طبيعة شخصيتها التي تصر على ممارسة كامل الصلاحيات والتغول على صلاحيات الآخرين، في مواجهة الضعف والتردد في شخصية الرئيس أوباما، ولذلك وصفت بالأميرة الجديدة لحركات الإسلام السياسي في المنطقة، على أساس رؤية قالت بقدرة الإسلاميين على الحلول مكان الأنظمة المتهالكة. توجد خطة لدى الجمهوريين، وهي خطة يمكن أن تتعرض لتعديلات كبيرة أو طفيفة، ولكنها تبقى الخطة الأصلية، والرئيس المقبل ترامب ليس حاكماً بأمر الله، فيما يتعلق بالرؤى الحزبية، يمكن أن يقاتل من أجل تمرير قرار أو برنامج معين، ولكنه يبقى مؤطراً بموقعه رئيساً جمهورياً تحصل على الدعم من حزبه، وعليه أن يعمل مع القادة الحزبيين، ومنهم من يتحمس طبعاً لمشروعات جرى استثمار مبالغ ومجهودات طائلة من أجل إنجاحها أو على الأقل إنضاجها لمرحلة جني الثمار. الرئيس ترامب يطرح توجهاً جديداً ويوجد لديه فريق عمل سيعبر عن توجهاته، وأمريكا التي ستعتني بنفسها على المستوى المحلي من خلال مراجعة التزاماتها تجاه قضايا حرية التجار والتغير المناخي، بالإضافة إلى المهاجرين غير الشرعيين على أراضيها لن تستطيع أن تطبق ذلك أصلاً دون الدخول في صراعات واسعة على مستوى الكوكب تلتزم أن تعيد توزين حلفائها ومدى قدرتها على التعامل معهم، وإذا كانت الخيارات الافريقية اليوم، استبدلت واشنطن ببكين، فإن العواصم الرئيسية في العالم العربي ما زالت تعيش الأسطورة الساداتية، التي تقوم باستحواذ الأمريكيين على 99% من أوراق اللعبة، وربما يواصل العرب قناعتهم الهوليوودية بالتفوق الأمريكي المطلق حتى ولو تحول المتوسط إلى بحيرة روسية – تركية مغلقة.
العرب للأسف لا يمتلكون القدرة على التصويت في الانتخابات الأمريكية، والجاليات العربية في الولايات المتحدة لم تظهر في أي مناسبة الحد الأدنى من القدرة على التأثير، فالعربي يعتقد أن المكاسب السريعة والعاجلة يمكن أن تقوم بتأمينه على المدى الطويل على أساس وصايته وقوامته على الأجيال القادمة والزمن المقبل، مع أن التجربة التاريخية تؤكد أن هذه النزعة هي مجرد حلقة من القدرة العربية المفرطة على سوء التقدير والتوقع. الاجراءات التي اتخذت من قبل بعض الدول العربية تؤكد على أن الوصول لحالة النضج في إدارة اللعبة السياسية وتفهم ضرورة تداول السلطة ما زالت أمراً بعيداً عن العقلية العربية، وأن العرب ما زالوا يحلمون بامتلاك أصوات انتخابية في الولايات المتحدة، وبذلك ما زالوا يقفون عند هذه النقطة التي استفاقت منها افريقيا منذ عقدين من الزمن، وما زالت تشهد كل فترة من الزمن خروجاً جديداً من الحظيرة الأمريكية إلى البديل الصيني، على أساس ما يتناسب مع ظروفها المحلية وضجرها من التدخلات الأمريكية في صياغة الطبقات السياسية وتسييرها، مقابل ما يمنحه الصينيون من حرية كاملة في هذا المجال، وللأسف فإن دولة متواضعة مثل رواندا استطاعت أن تتفهم اللعبة بما يتفوق على كل عواصم القرار العربي، لتكتسب حرية كاملة في استبدال تحالفاتها التي انتقلت مؤخراً لتركيا بعد قيام الرئيس الرواندي بطرد الشركات الصينية بالجملة من أراضيه.
تضع التقارير الأممية المعنية بالتنمية، الدول العربية بين المرتبة الأخيرة وما قبل الأخيرة بالتناوب مع دول افريقيا جنوب الصحراء، وإذا استمرت العقلية العربية على حالتها البائسة فمن الحتمي أن تتخلص من منافسة الدول الافريقية لتقبع بمنتهى الأريحية في المؤخرة وتنعم بالدفء في القاع لتحصل على كل الوقت لتستثمره في تحديد (جنس الملائكة) أو تقديم المزيد من الدلائل المنطقية لدحض كروية الأرض، وتنتظر من ناخبين يرتدون السراويل الممزقة في سياتل أو أتلانتا أن تهديهم المائدة السماوية المنتظرة.
كاتب أردني
سامح المحاريق