(لقد تعب الناس، بعد سنوات من القتل والدمار، وكفروا بالحرية التي ثاروا من أجلها، ولم يعودوا مهتمين غير بوقف هذه الحرب المجنونة، ليتسنى لهم أن يعيشوا حياة عادية، وخاصةً بعد تصدر الفصائل العسكرية المتشددة المشهد المعارض..)
هذه هي بعض المقدمات التي تقوم عليها سياسة الغراب: الاستثمار في الخراب واليأس. قد تنطوي تلك المقدمات على الكثير مما هو صحيح في توصيف واقع الحال في سوريا، وبخاصة في السنوات التالية على عام الكيماوي 2013، لكنها تنطوي أيضاً على مغالطة أساسية، وتدليس غير بريء. ذلك لأن المخاطَب بذلك الكلام ليس النظام الذي اتخذ قراره، منذ ما قبل بداية الانتفاضة السلمية، بالحرب حتى النهاية مهما بلغت كلفتها، بل هو الطرف المناهض للنظام الذي لا يعدو كونه ردة الفعل الدفاعية البديهية في مواجهة الكم الهائل من العنف الذي تعرض له. ولا أعني بذلك الدول المتدخلة المستثمرة في الثورة، بل الثوار السوريين حصراً، سلميين ومسلحين.
(وقف الحرب المجنونة) مطلب حق أريد به باطل في خطاب الغراب. فقد طالب السوريون، دائماً، بأن يكون وقف إطلاق النار شرطاً أول لأي عملية تفاوضية محتملة مع الطرف المسلح المحارب، أي النظام الذي لم يلتزم بذلك يوماً واحداً. صحيح أن الثورة السلمية بدأت تتسلح بعد أربعة أشهر على بداية المظاهرات السلمية، لكنها لم تنتقل إلى طور الهجوم إلا في تموز/يوليو 2012، حين اجتاح لواء التوحيد شرقي حلب، وسيطرت بعض الفصائل على المعابر الحدودية مع تركيا. وكان رد النظام على ذلك، هو التوسع في استخدام الطيران الحربي والصواريخ والبراميل المتفجرة، أي استهداف أكبر عدد من المدنيين في المناطق المعتبرة «حاضنة شعبية» للثورة.
لقد التف النظام على قرارات الجامعة العربية، ثم الأمم المتحدة، ولم يلتزم بوقف الحرب والقبول بالتفاوض يوماً واحداً. وعمل بصورة منهجية لإنهاك الحاضنة الشعبية المذكورة، لكي تتخلى الثورة عن كل مطالبها مقابل وقف القتل، من غير أي ضمانة بأنه، في تلك الحالة، سيوقف القتل فعلاً.
هنا يأتي دور الغراب الذي لا ينكر، مبدئياً، حق السوريين في نظام ديمقراطي يحفظ كرامتهم، لكنه يرى أن الثمن باهظ جداً، وليس هناك ما يستحق كل هذا الموت في سبيله. وتقتضي الواقعية، وفقاً للغراب، الاستسلام أمام نظام قادر على القتل ولا يتورع عنه دفاعاً عن بقائه، والاكتفاء بأي مكاسب قد يمكن الحصول عليها، أو حتى بلا أي مكاسب غير وقف القتل.
أيضاً قد يبدو هذا المنطق سليماً من حيث المبدأ، ذلك أن الناس يحتاجون الأمان قبل الحرية والكرامة وحتى الخبز. وهو المنطق الذي طالما اختاره السوريون على مدى حكم آل الأسد: العبودية الآمنة، حيث من حق العبد أن يأكل ويشرب مقابل تسليم مطلق، بما في ذلك تسليم الحق في الحياة لمالك العبد الذي يحق له قتل العبد إذا رأى ضرورة لذلك.
لكن الزمان تغير، فتمرد السوريون وجربوا الحرية. دفعوا ثمنها غالياً لكنهم امتلكوا مصيرهم، في بعض المناطق ولبعض الوقت. خسروا الحرب، وباتوا مهددين بالعودة إلى العبودية مع تشديد شروطها أضعافاً مضاعفة. يستثمر الغراب في نتائج حرب النظام المأساوية من قتل وتهجير وتدمير وتشريد. هذه هي حال سياسة «المنظمات المدنية» حين تتدخل في السياسة، متبنية ما يمكن تسميته بالخطاب الأيديولوجي للأمم المتحدة، وهو ذو لون رمادي ومنطق «محايد» و«موضوعي» رصين متأنق بربطة عنق.
على أي حال، كان الموصوف أعلاه سياسة الغراب القديمة، في ظروف كان النظام فيها أضعف مما هو الآن، قبل التدخل الروسي، حيث المساحات الجغرافية التي كان يسيطر عليها لم تكن تتجاوز 20 ـ 25 ٪ من مساحة البلاد، وهي سيطرة عسكرية فظة، فوق ذلك، وليست هيمنة حالة الاستقرار.
أما اليوم، فقد بلغت الوقاحة بالغراب أن يرى في الخراب و«انتصار» النظام فوائد جانبية! كتب «معارض» سياسي معروف، وهو، في الوقت نفسه، كاتب صحافي مواكب للأحداث السورية، مقالةً، قبل أسابيع، يعدد فيها بعض الفوائد الجانبية التي يتوقعها لـ«انتصار» النظام المفترض، منها مثلاً صعود متوقع في دور المرأة في الحياة العامة، ويستنتج ذلك من الحصيلة غير المتساوية في عدد القتلى والمعتقلين والمشوهين بين الجنسين، كما من انخراط المرأة السورية في العمل السياسي والعام، بصورة واسعة. هذا الارتفاع في دور المرأة سيؤدي بدوره، مع عوامل أخرى، إلى مزيد من علمنة المجتمع السوري!
يتحول غرابنا، هنا، إلى نسر يتغذى على جثث الضحايا، حين يحتسب نسبة النساء إلى الرجال في عددها.
من العوامل الأخرى التي يرى غرابنا أنها ستساهم في علمنة الحياة العامة، ابتعاد يتوقعه للمكون السني في سوريا عن الإسلام السياسي، والمتطرف منه بصورة خاصة.
ومن الفوائد الجانبية، برأيه، عودة العروبة إلى صدارة العوامل الإيديولوجية الفاعلة في المجتمع (يسميها اللاصق الوطني الأساسي الباقي للسوريين). ويستنتج ذلك من النزوع القومي العربي الذي واجه النزعة الانفصالية الكردية، وخاصةً إبان حرب قوات حماية الشعب ضد داعش تحت المظلة الأمريكية. تلك العصبية المدمرة للنسيج الاجتماعي السوري، المعززة بالعصبية الكردية المقابلة، يرى فيها الغراب/ النسر فائدة جانبية!
بالمقابل، ستنحسر الموجة الكردية، برأيه، بعد هزيمتها في محطتي كركوك 2017، وعفرين 2018، وهو ما سيجعل الكرد السوريين، برأيه، يعودون إلى الانخراط في مشروع سوري وطني عام! مستثمراً في تكالب إقليمي ـ دولي ظالم على استفتاء الاستقلال في كردستان العراق، وفي الاحتلال العسكري التركي لعفرين. أما الفائدة الثالثة التي يأملها كاتبنا المعارض من خراب البصرة فهي «نمو كبير في اليسار السوري» بحكم تدمير الفئات الوسطى والبورجوازية!
إن التأمل في هذه الأفكار الغرابية يقودنا إلى استنتاج خطير: كأن نظام بشار الكيماوي قاد، بحربه على سوريا، «ثورة كرومويلية» لم يعرف، هو نفسه، ما ستفضي إليه من نتائج رائعة: عروبة يسارية علمانية! أو كأنه نابليون بونابرت الجديد ممتطياً صهوة برميله المتفجر، يعيد كتابة التاريخ، (ويرسم حدود المجتمع المتجانس)! فكاتبنا «المعارض» من المعجبين بهيغل الذي رأى في بونابرت «التاريخَ وقد امتطى صهوة حصانه»!
٭ كاتب سوري
بكر صدقي