■ قراءة:لقد قطعت القصة القصيرة أشواطًا بعيدة من التجريب للوصول إلى هذا الشكل الحداثي الذي استقرت عليه الآن، الذي يتمثل في تلاؤم الشكل والمضمون وتجانسهما بدون نفور، وتوجيه الكاتب لخطابه الأيديولوجي في ثنايا نصه على لسان أبطاله، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للحدث، إذ أنها ليست سقْطَ متاعٍ في العمل، هذا بجانب تعدد مستويات السرد، بما يتلائم مع طبيعة الحدث مع الحفاظ على الترابط الدلالي بين تلك المستويات، كما يأتي الاختزال والتكثيف ملمحًا مهمًا من ملامح هذا التجديد، على مستوى اللغة والصورة، وهذا ما تؤكده الكاتبة الشابة دينا نبيل في مجموعتها القصصية الأولى «وجهك الأرابيسك» الصادرة حديثًا.
يتضح بجلاء في نصوص المجموعة اعتماد الكاتبة على تكنيك التكثيف المشهدي في شكل وبناء الحدث، صورةً ولغةً، في مجموعتها الأولى. من خلال هذا الاختزال توثق دينا نبيل لحظاتها المنفلتة من إسار الزمن بفنية عالية، ويتجلى هذا في:
الجمل القصيرة البرقية التي تستخدمها في نصوصها كما في قصة «شريط وردي ودانتيل»: «الماء الدافئ يمطرني، يتخلل الغوائر من جسدي، في المغطس أنزل، وفي الماء أغوص، حتى أنفي .. أغوص، البخار يتصاعد، أبحث عن ثغرةٍ أتنفس منها، أصابعي تذوب، يأكلها الماء، أطرافي تطفو، تنفصل عن جسدي المتهرئ، رويدًا، رويدًا، يسبح كل منها في اتجاه، تتشبث بجوانب المغطس، تشهق .. وتصعد!».
اختزال شخصيات القصة في أقل عدد ممكن .
تسليط الكادر التصويري على بؤرة الحدث الأهم، بدون الانشغال بالمؤثرات الخارجية المحيطة بالحدث كما في قصة «الأرجوحة» و«وردة قرمزية».
كما أن واقعية الحدث وتوازن الكاتبة في طرح أفكارها تعطي نصوصها مصداقية لدى المتلقي، ، من خلال نظرتها للإنسان وهمومه المجتمعية، وما يكتنف حياة الكائن البشري من قلق وتوتر، وهذا ما تعكسه البنية السردية للحدث في كل نصٍّ على حدة.
وفي خضم هذا الاهتمام الذي توليه الكاتبة للتكثيف والاختزال، لا تنسى الاهتمام، برصدِ التفاصيل الدقيقة للحدث بدون ثرثرةٍ جوفاء، على الرغـــم من تسارع الإيقاع في أحداث بعض النصـــوص، وتدفق التفاصيل الصغيرة، كما في «المولد، حلقة مفرغة»، وهذا في حد ذاته جسر تواصل بين الكاتبة والمتلقي الذي يمكنه أن يستخلص من تلك النصوص الكثير من المعاني والرموز الدلالية والإسقاطات، فهي نصوص في أغلبها مفتوحة على التأويل.
وإذا كانت الدهشة هي ابنة الإبداع ومكمن سره، فإن الدهشة في نصوص هذه المجموعة تكمن في قدرة الكاتبة على مزج الواقع بالخيال، معتمدة على دقة التصوير والانزياحات اللغوية، من خلال رؤية فنية إبداعية ذات طابع خاص في التعبير عن هموم وقضايا المرأة، بدون التورط في المبالغة والتحيز الجنوسي.
هذا من خلال لغةٍ تتجاوز أفقَ الحكيِ، لتمارس سلطة التجديد، بحيويتها ورمزيتها وطابعها الفلسفي، الذي يغلفه الشعرُ غالبًا، ولتنتج لنا نصًا يجمع في طياته كلَّ فنون القول، بقدرته على رسم مشهدٍ طازجٍ لفكرة الكاتبة، وإن اعتمد أحيانًا على الأسطورة أو الخيال الجامح كما في قصة «رسالة بحر»: لم أنتبه لقمم الموج المتصاعدة على المدى، أمواج ذات بطون.. مغارات.. زرقاء حالكة.. سوداء.. يصهل زبدُها كخيلٍ بيضٍ فائرةٍ تهبط مسرعة نحوي تصلصل في معركةٍ لن تكتب قط.. القمم تتعملق.. تصنع رأسًا ينفخني.. ثم ما يلبث يسحبني حتى كاد يبتلعني بطنُه.. تلفتُّ حولي لم أجد الطوف.. ولم أجد «بحرا».
من خلال الخيال الممتزج بالواقع فنيَّا، استطاعت دينا نبيل أن تبني عوالم مجموعتها، تلك العوالم النابضة بالحياة وزخمها، وبكل أبعادها الإنسانية.
٭ كاتب مصري
أشرف قاسم