وجوه مكررة وأعمال شابة تتجاوز الشكل التقليدي

القاهرة ـ «القدس العربي»: اختتمت مؤخراً فعاليات «ملتقى القاهرة الثالث للخط العربي» الذي أقيم في قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية في القاهرة. وحسب أعداد المشاركين وأذواق لجنة التحكيم، فقد حصدت مصر معظم الجوائز كالعادة عن أعمال غاية في التقليدية، كما بارك وزير الثقافة الملتقى بكلمات الشكر والتشجيع الأكثر تقليدية أيضا.
وبالضرورة نجد في هذه الاحتفاليات الحكومية العديد من الأسماء المعهودة التي تستعرض الأعمال نفسها سواء في معارض خاصة أو جماعية، ولو اجتهدت وقدّمت عملاً جديداً، فلا يخلو من تكرار الأسلوب الفني، فالأمر يبدو وكأنه للمشاركة فقط. نتحدث عن الفنانين المصريين، الذي تبدو معظم أعمالهم وكأنها تكرارات، ظناً منهم أن الاعتماد على الأسماء الشهيرة والكبيرة (سناً) سيخفي العجز الفكري والفني الذي يعانونه منذ وقت طويل. اللافت أيضاً أن بعض الفنانين يبدو أنهم وجدوا عملاً فنياً منسياً في مراسمهم، فيه تشكيلات لبعض الخطوط كشكل من التمرين أو التدريب أو غيره، فأتوا للمشاركة به بدلا من ركنه جانبا ونقصد التشكيلي محمد عبلة. لكن ذلك لا ينفي تجارب بعض الشباب، الذين من خلال أعمالهم يتضح الفارق الكبير بين تقضية الواجب ومحاولة ابتكار عمل فني يتجاوز المألوف، خاصة ونحن أمام فن الخط العربي، لما له من خصوصية لانتسابه في الغالب إلى عالم النص المقدس. هؤلاء حاولوا الخروج عن افتعال القداسة والورع الفني، وسعوا خطوات نحو تجديد عالم الخط العربي المعهود، وهم الأجدر بالمتابعة من أسماء وأعمال أخرى لم تزل تنتهج تقليد الأساليب العتيقة في فن الخط.

المرأة

في ما يبدو أن فن الخط العربي واستناده إلى نص تم الإجماع على قداسته، وأيضاً من وجهة نظر ذكورية تمتلك منصة القول، وبالتالي تحديد الأفعال من حلال وحرام وتبجيل وإقصاء ــ كحال الأديان الإبراهيمية ــ هنا يصبح الخط بديلاً عن وعي ذكوري. لكن الفنانة المصرية رشا عرفة حاولت ــ وإن كانت ضمن المنظومة نفسها ــ أن تجعل منه تعبيراً عن وضعية المرأة في مصر، والتي لا تختلف كثيراً عن وضعيتها في البلاد العربية، وبلدان الشرق المتخلفة حضارياً بشكل عام. استخدمت عرفة عبارة شهيرة نطق بها رسول الإسلام، وهي (رفقاً بالقوارير) لتتصدر اللوحة، بينما جاءت الخلفية عبارة عن مقالات من الصحف عما تتعرض له المرأة من غبن، في ما يخص وجودها في المجتمع، والمشاكل التي تعانيها، بداية من وجوب احتجابها بما أنها عورة، ووجوب الطاعة للزوج وقبله الأب وما شابه من هذه الأحكام، وتباين آراء الفقهاء وعلماء الأمة في كشف الغُمة. هنا تصبح العبارة التي تستشهد بها الفنانة من الموروث الديني نفسه، وكأنها نغمة خافتة للرد على ما يحدث. وفي لوحة أخرى تبتعد عن هذا الموروث، وتستخدم كلمة تدل على حالها، وإن كانت الكلمة معقدة نطقاً، فهي بطبيعة الحال دالة على ما ترمي إليه من معنى، كذلك موجهة إلى آخر، تحاول لفته إلى وجودها، وعدم اختصارها في مجرد تفاصيل مُجسّدة. الكلمة هي (متستبسطنيش) أي «لا تستخف بي».

الأحجية

الأمر نفسه في شكل آخر، نجده في عمل الفنانة السعودية غادة الحسن، التي لم تستسلم إلى نمطية فن الخط العربي، فحاولت صياغته في صورة غير معهودة أو متعارفا عليها. هنا تبدو لوحتها ككتابة الأحجية على جدران الكهوف، تشكيلاً ولوناً، ليصبح قديماً متحرراً من تشكيله القداسي، حراً وبدائياً ودالاً في الوقت نفسه على الوجود الإنساني، قبل التعاليم الموروثة، وتصنيف المخلوقات ما بين الإيمان والكُفر. اللعب هنا على الحالة الإنسانية والمعرفية أكثر منها موروثاً دينياً يضرب فن الخط ويدل عليه. فتكشف عالماً آخر يتخذ من الخط وسيلة لا غاية، كما في العديد من الأعمال المعروضة.

الموروث الشعبي

ومن مصر تأتي تجربة الفنان شريف رضا، الذي صاغ اللوحات في تضافر ما بين الخط والموروث الشعبي المصري، ليبتعد قليلاً عن الخط العربي في شكله التقليدي، وينحو نحو الخط الشعبي ــ إن جاز التعبير ــ هذه العبارات التي يسجلها المصريون فوق جدران البيوت والمنازل في المناسبات الدينية، كالاحتفاء بالعودة من رحلة الحج، وما شابه من أشكال الخطوط التي تزيّن مقامات أولياء الله الصالحين. ولم يكتف رضا بالخط، بل أضاف الشكل، كالأسماك وعرائس المولد، هنا يصبح التجسيد المقصود، بداية من دلالته على البيئة المصرية، أو ألا يقتصر العمل على الخط فقط وزخارفه وتنويعاته، لتحريم التجسيد في الإسلام. فلا اغتراب هنا ما بين العبارات ذات الطابع الديني، والتي يستخدمها المصريون في أدعيتهم وأحاديثهم العادية، وشكل هذا الموروث في وعيهم الجمعي. الأمر أيضاً يوحي بمدى تطويع اللغة المقدسة إلى لغة عامية يتحدثونها ويفكرون من خلالها، هذا الفارق الشاسع يبدو واضحاً في اللوحات، فتصبح المقارنة بين المتن المقدس والهامش اليومي، فيتحول الهامش متناً في النهاية.

تجارب متنوعة

هناك أيضاً العديد من التجارب اللافتة، والتي لا تستكين للنمط، كما في أعمال كل من اللبناني جمال نجا والمصري أحمد عبد الكريم، والفنانة جادير أسارييفا من كازاخستان. هنا يبدو التشكيل اللوني للوحة ككل جزءاً لا يتجزأ من العمل، كذلك دلالة اللون والتكوين، ما بين تنويعات على حالة الاحتفاء والاختفاء في الحرف ودلالته، وكأنها حالة طواف دائم لا تنتهي، دون فارق ما بين أن تكون من خلال قسوة التجربة أو التغني بها في النهاية، وهو ما يظهر عند كل من عبد الكريم ونجا على الترتيب. كذلك يبدو التجديد من خلال التقنية، ومحاولة أن تكون ضمن فكرة اللوحة، دون استعراض فني لا مبرر له. من ناحية أخرى وإن كان عمل أسارييفا يتشابه كثيراً والكتابات فوق الرقائق الجلدية القديمة، إلا أن الروح الحداثي لا يخفى، ومحاولة الإفلات من التقليدية كانت السمة الأهم في لوحتها.
هذه بعض الأعمال التي حاولت في وعي تجاوز النظرة السطحية والمألوفة لفن الخط، الذي أصبح من خلال العديد من المعارض التي تقام في مصر على مدار العام ــ سواء معارض خاصة أو جماعية ــ مجرد تكرارات أو هي تقليد لأعمال مشاهير هذا الفن، اللهم قِلة من الفنانين الذين لا يصرون على رؤية هذا الفن رؤية سطحية مُستهلَكة، الأمر الذي يبدو في الكثير من الأحيان أشبه بعمل الخطاطين، الذين يقـومــون بعمل لافتات المحال، أو اليافطات التي تحمل أسماء المرشحين في مواسم الانتخابات.

وجوه مكررة وأعمال شابة تتجاوز الشكل التقليدي
ملتقى القاهرة الثالث للخط العربي:
محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية