ارتفعت، في الآونة الأخيرة، بورصة التكهنات حول تفككات محتملة في قمة السلطة في نظام دمشق الكيماوي، بمناسبة الوضع الغامض لرئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك، وما قيل عن تصفية اللواء رستم غزالي قبل ذلك. وفي حين تقاطعت عديد الروايات اللبنانية بشأن تعرض الأخير للضرب المبرح على يد عناصر رئيس شعبة الأمن العسكري رفيق شحادة، ثم وفاته بصورة مريبة، بعد غيبوبة في مشفى الشامي بدمشق؛ ما زالت الرواية الوحيدة حول مصير مملوك هي تلك التي جاءت في تقرير صحhفي نشر في جريدة ديلي تلغراف البريطانية. وقد بادر النظام لإظهار مملوك على شاشة التلفزيون بمناسبة استقبال رأس النظام للمبعوث الإيراني علي بروجردي، دفعاً للشائعات.
للشائعات، في زمن الحرب، مفعول كبير في التأثير على معنويات الأطراف، وخاصةً في بلد أدمن تداولها بوصفها «وسيلة الإعلام» الموثوقة، مقابل وسائل إعلام النظام الرسمية التي طالما تواطأ كل من النظام والمجتمع في سوريا على معرفة أنها وسائل كذب. ولطالما لجأ النظام إلى نشر الشائعات الشفهية، بدلاً من الصحف والتلفزيون، إذا أراد لمحكوميه أن يصدقوا خبراً أو معلومة أو تقييماً في شأن من الشؤون العامة المهمة.
وهكذا، استطاع النظام أن يستخدم هذه الوسيلة المجربة بطريقة معكوسة أيضاً: وذلك ببث شائعة كاذبة يخدم انتشارها أعداءه، ثم «يفاجئ» الجميع بتكذيبها من خلال صورة تلفزيونية لا تدع مجالاً لأي شك أو تأويل. هذا ما حدث، مثلاً، بالنسبة لنائب الرئيس فاروق الشرع الذي ذاع خبر انشقاقه مرات ومرات، أو ما قيل عن إصابة ماهر الأسد شقيق رأس النظام. من المحتمل، إذن، أن يكون خبر اعتقال علي مملوك أو وضعه في الإقامة الجبرية، هو من إنتاج أجهزة النظام، وتم تسريبه بصورة مقصودة إلى الديلي تلغراف، فتلقفه السوريون التواقون إلى تفكك وسقوط النظام. والهدف من تكذيب الشائعة، بعد بثها، هو رفع معنويات البيئة الموالية للنظام بعد خسائره العسكرية الكبيرة في الشهرين الأخيرين.
لم يقتصر تقرير الجريدة البريطانية المذكور على خبر مملوك، بل تضمن أيضاً عن مساعٍ تجري لعودة رفعت الأسد من منفاه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام، الأمر الذي عززه طرح الوزير السابق محمد سلمان، المعروف بعلاقته مع رفعت، «خارطة طريق» لحل الأزمة السورية، لا تتضمن أي إشارة إلى مصير رأس النظام، قبل نحو أسبوعين.
وفي سياق متصل جاء خروج رئيس تيار بناء الدولة لؤي حسين من سوريا إلى اسبانيا عبر الأراضي التركية بعدما «أحس بخطر شديد على أمنه» على ما جاء في تدوينة له على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. ومن اسبانيا جاء إلى اسطنبول للقاء رئيس ائتلاف قوى المعارضة خالد خوجة «بحثاً عن حل لإنقاذ البلاد». بعد «أزمة علم الثورة» في المؤتمر الصحhفي الذي عقده الرجلان، وأثارت موجة احتجاجات صاخبة للبيئة المعارضة على صفحات فيسبوك، وأربكت رئيس الائتلاف فسارع إلى تقديم اعتذاره عما حصل، نصبت محطة تلفزيون أورينت المعارضة فخاً للؤي حسين بدا أنه كان جاهزاً للوقوع فيه، فشكل كلامه المسرب الضربة القاضية لطبخة يبدو أنها كانت تطبخ وراء الأبواب المغلقة.
لا نملك أي معلومات حول هذه الطبخة المفترضة، سوى تصريح وجيز لعضو الائتلاف المعارض سمير نشار الذي اعتبر فيه لؤي حسين «أول معارض علوي للنظام». فإذا أردنا البناء على هذا التصريح، معطوفاً على وصف خالد خوجة لـ»المعارض العلوي الأول» بأنه «قامة وطنية» فهمنا أن الإضافة المحتملة التي قد يشكلها حسين للمعارضة «الخارجية» إنما تصدر من انتمائه الأهلي لطائفة السلالة الحاكمة نفسها.
أليست إحدى المعضلات الواقفة في وجه أي حل سياسي للمشكلة السورية هي مصير هذه الطائفة، أو «الأقليات» بصيغة موسعة؟ فإذا كان مصير الأسد قابلاً للمساومة حتى عند أشد داعمي النظام إخلاصاً، كإيران وروسيا، فمصير العلويين هو الذي يؤرق جميع السوريين بمؤيديهم ومعارضيهم، ليس فقط لأسباب إنسانية – على أهميتها القصوى- ولكن لأهميتها الوطنية أيضاً. ذلك أن إنقاذ جماعة أهلية كاملة من الخطر الحقيقي الذي بات يتهدد وجودها هو، في الوقت نفسه، إنقاذ لوحدة البلاد. فبعدما تورطت هذه الطائفة، كجماعة سياسية، في مساندة نظام قاتل دمر البلد (هذا على الأقل هو الرائج في «الوعي العام السني»)، لم يعد أمامها إلا خياران: إما إقامة دويلة علوية تستعيد تجربة سابقة قامت في عهد الانتداب الفرنسي، أو ابتكار صيغة سياسية لتقاسم السلطة، بعد سقوط نظام الأسد، على غرار التجربتين اللبنانية والعراقية. بين هذين الحدين (تقسيم سوريا أو تقسيم السلطة) من المحتمل أن سائر السوريين سيختارون الثاني، وإن كان على مضض. ذلك أن لوحة الصراع اليوم لا تسمح ببقاء النظام السابق ولا بانتقال السلطة، على دولة موحدة، من أقلية إلى الأكثرية السنية، ولا هما خياران مرغوبان لدى غالبية السوريين. أما الحديث الرومانسي للتيار الديمقراطي ـ بمعناه العريض- حول «دولة ديمقراطية مدنية تعددية» فقد طوته الحرب في سوريا وعليها، منذ وقت طويل. وتتطلب العودة إلى هذا الهدف مرحلة انتقالية طويلة نسبياً لاستعادة الثقة المتبادلة بين المكونات الوطنية. فالتجربتان اللبنانية والعراقية أثبتتا أنهما لا تجلبان استقراراً اجتماعياً مستداماً.
في غياب أي مبادرات سياسية جدية للحل، عربية أو دولية، لإنهاء المأساة السورية، لم يعد أمام السوريين غير اقتلاع شوكهم «سياسياً» بأيديهم. ترى هل كان «انشقاق» لؤي حسين محاولة في هذا الإطار، أسقطها كارهوه بصورة مدوية؟ وإلا ما الذي قد يغري الائتلاف المعارض بأخذه على محمل الجد، وتيار بناء الدولة الذي يرأسه حسين لا وزن له في المعادلات السياسية القائمة؟
من المرجح أن الطائفة التي بلغت درجة عالية من الرعب الوجودي وخسرت رهانها على انتصار النظام عسكرياً، وباتت، بخسائرها البشرية الكبيرة، شريكة في المأساة السورية العامة، بدأت بحثها عن الحلول السياسية أخيراً. في المقابل تحولت الفصائل الجهادية العاملة على أرض سوريا إلى خطر حقيقي كبير على جميع السوريين، من شأنه توحيدهم في مواجهته.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
كما قاتل الأسد وسيقاتل للنهاية المحتومة
كذلك سيقاتل الثوار السوريون لنهاية هذا النظام ورموزه وحاضنته
فالمسألة قد وصلت الى اللا عودة – فمن يده بالماء ليس كمن يده بالنار
ولا حول ولا قوة الا بالله