في خضم تثوير تكنولوجيا الاتصال الحديثة لوسائطها المعلوماتية «الإنفوميديا»سينتبه المهتم إلى حضور معطيات واستنتاجات غير مسبوقة، تخص طبيعة العلاقة القائمة بين المتلقي، وما يتقاطر عليه من أخبار ومعلومات، شفهية كانت أو مكتوبة، ذلك أن التقدم الكبير الذي تحققه حاليا هذه التكنولوجيا، عبر إنتاجها المتطور للأجيال الجديدة من الحواسب اليدوية، خوَّلها لأن تكون بامتياز بؤرا معلوماتية دائمة الاشتعال والاشتغال، وبقوة انفجارية مضاعفة، لا يتوقف صبيبها عن إغراق المتلقي في طوفان من الأخبار والمعلومات المعززة بالصوت والصورة، الملمة بمختلف المجالات القطاعية التي تستأثر، أو لا تستأثر باهتمامه.
ومن المؤكد أن ضراوة هذا الطوفان وعدوانيته، تتدخل بشكل مباشر، في تعطيل القدرات النقدية والتأويلية لدى المتلقي، كما تتدخل قصد إجباره على ملازمة حدود تفاعل سلبي، ينحصر في استهلاكه العشوائي والمجاني لأشرطة لا بداية ولا نهاية لها من الأحداث الملفقة والمبتذلة، بدعم من تقنية بصرية وصوتية جد متطورة، قوامها طرافةٌ مشوبة بإثارتها القصوى، وكلها عوامل من شأنها خلق أجواء غير متوازنة، ومفتقرة إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ما يشحن المتلقي بخليط هجين من المشاعر، التي يتداخل فيها الحس الكارثي بحالات الانبهار، والمتعة، والتقزز، والتعاطف الممزوج بالإشفاق.
والملاحظ أن خضوع المجتمع لسيطرة هذه المنهجية المتخصصة في مطاردتها لأفراده وجماعاته ليل نهار. كما في تسطيح ملكاتهم النقدية، ومهاراتهم التأويلية، يؤثر بشكل مباشر في تأطير وتوجيه منهجية ما يتلقونه من رسائل متعددة ومتنوعة، وتأجيج ردود أفعال عصبية ومزاجية، تجاه ما تحفل بها عناصرها من إثارة، خاصة منها تلك المؤدية إلى تصعيد وتيرة تفاعلهم مع الحدث/ الخبر/ المعلومة/ بدون أن يكونوا بالضرورة مطالبين ببذل أي جهد فكري أو نظري، باعتبار أن ضغط الضَّخِّ الإعلامي، يختزل رهانات المتلقي في التعرف- السلبي -على مجموع ما تبثه وسائطه من معلومات، بدون أن يكون معنيا بوضعها تحت مجهر الفحص والمساءلة، والمقصود بالتلقي السالب، هو ذلك الاستسلام الأعمى لسلطة البث، المؤطرة مبدئيا بطقس التسلية والفرجة، اللتين تعتبران عاملين أساسيين من عوامل تأجيج شرط التفاعل، حتى بالنسبة للفواجع السياسية والاجتماعية، التي تحاصر الإنسان العربي أينما حل وارتحل.
والجدير بالذكر، أن التأثير السلبي لهذه الظاهرة، يتسرب إلى صلب آلية اشتغال جماليات التلقي، بفعل إدمان العامة والخاصة لحالة من الانغماس العشوائي، في صخب الأصوات والصور المتعاقبة، التي تستهدف مباشرة الانفعالات والعواطف، بدون العقل، وأيضا بفعل تراجع الإقبال على المكتوب، الذي تحول تدريجيا بحروفيته الصماء والخرساء، إلى مادة متجهــــمة، وخالــية من الفرجة.
واضح أننا في هذا السياق، نثير إشكالية على درجة كبيرة من الأهمية، وهي المتعلقة بالدور المركزي الذي تضطلع به التكنولوجيا التواصلية المهيمنة على الفضاءات العربية، والمتمثلة في تعميم الرداءة، وفي تمييع ما يمكن أن يتخللها من قضايا وازنة، ذلك أن اكتساح الزوابع التهريجية لفضاء الرؤية، يلغي أي إمكانية لتناول القضــــايا الأساسية والجوهرية، كما أنه إلى جانب ذلك، يساهم في تعميم الفقر المعرفي، الشيء الذي يضاعف من تحجيم الأبعاد الحقيقية لجماليات التلقي، كي تقترب من حدودها الدنيا، كما يقلص من إمكانيات تقصيها لحركية الواقع المجتمعي، عبر القنوات المتميزة بمصداقيتها وموضوعيتها، لاسيما تلك المنتمية إلى مجال المقاربات المتخصصة، المشهود لها برصانتها العلمية، وعمقها المعرفي.
وإذا كان من الضروري توظيف أداة التشبيه التي قد تقربنا أكثر من دلالة الطوفان الفُرجَوي، الذي تفجره تكنولوجيا الإعلام، فإننا لن نجده أقل فظاظة من أكوام النفايات المشحونة من كل جهات الكون، بهدف مواراة مختلف أنماط الوعي المهتمة بمقاربة الخطابات الجادة، سواء على مستوى الكتابات أو القراءات، مع العلم أن هذا التصور لا يعبر بالضرورة عن موقف سلبي تجاه برمجيات هذه الوسائط، حيث سيكون من باب العبث والجحود، إنكار تأثيرها الفعال والبناء، في تنوير الرأي العام وتوجيهه، خاصة حينما يتعلق الأمر بواجب تعميم المواقف السياسية أو الاجتماعية التي تعتمدها القطاعات الاجتماعية، في صراعاتها المفتوحة مع دواليب السلطة وأجهزتها الخفية والمعلنة. ذلك أن مصدر تحفظنا يعود أساسا إلى اختلال المناخ العام، الذي تمارس فيه الوسائط المعلوماتية حضورها، والمعروف – عربيا ـ بهزال رصيده المعرفي والثقافي، ما يفتح الباب على مصراعيه لهبوب زوابع لا تعد ولا تحصى من السخافات والحماقات المفبركة، التي تحكم قبضتها الحديدية على فضول البسطاء وضعاف العقول، مساهمة بذلك في خلق واقع مشوه ومريع، وعلى درجة كبيرة من الغثاثة والتحريف، بعد أن تُسْنَد أدوارُه الفجة، في أغلب الأحيان إلى فئات معدلة ومنتقاة بعناية فائقة، وبشكل جد مُبيَّت وماكر، من عمق تلك الهوامش الهشة، كي تطهر بمسلكيات منحطة ومتخلفة، مدعمة بتقنيات متطورة لا يمكن أن تغيب نواياها المبيتة عن إدراك أي ملاحظ يتوفر على الحد الأدنى من الروية والتفكير، كي يتأكد في نهاية المطاف، من حضور منهجية متقدمة في إشاعة حالة مستشرية من الخلط والتعتيم، هدفها تقديم صورة جد منفرة عن هوية الشرائح الشعبية، بمختلف قطاعاتها واختصاصاتها المهنية، أو الفنية، كي تظل القطط السمان هناك، محجوبة، في منجى عن كل نقد، وفي مأمن من أي شبهة أو متابعة، وكي تظل أيضا، الأصابع المتحكمة في خيوط المؤامرات الكبرى، متوارية عن أنظار الفضوليين. وهو ما يفضي إلى فبركة رأي عام، بعيد كل البعد عن الواقع الحقيقي، وعن الإشكاليات الموضوعية التي يُفترض فيها أن تكون موضوع اهتمام عقلاني منطقي وسليم . والملاحظ أن استجابة الأصابع لإغراء الحواسب اليدوية الفائقة الذكاء، أو بالأحرى لأوامرها الصارمة، هي شكل من أشكال التداوي بالصدمات الكهربائية، من مكابدات وتداعيات الاكتئاب المعلوماتي. وهي وضعية غير طبيعية، وغير صحية بالمقاييس والمعايير المتعارف عليها في الفضاءات المتنورة، والكفيلة بتحقيق تواصل موضوعي خال من العاهات، لأن الملابسات التي تفرزها وسائط الاتصال الحديثة في واقعنا العربي، بأبعادها «المقدسة « و«الجهنمية»، لا توحي مطلقا بحضور أي أفق تواصلي بالمفهوم الحقيقي للكلمة، بقدر ما توحي بحضور ديكتاتورية إعلامية، بقفازات حريرية، تشل قدرات العقل، فتتداخل الأنساق وتختلط، بشكل يصعب معه تمييز الصالح من الطالح، والفصل بين الحق والباطل، ما يستدعي حضور مقاومة مضادة، وممانعة معرفية وثقافية، لا تقل من حيث حماسها وعنادها، عن المقاومة المباشرة التي تلجأ إليها الشعوب المناضلة في مواجهة ديكتاتوراتها الفعليين. وهو الواقع الذي لا مناص للملاحظ من معاينته والإقرار به، حيث يمكن من خلاله ملامسة بعض الآفاق المتوقعة لاشتغال الخطابات، التي تبدو من وجهة نظرنا، مهددة بخسارة غير قليل من مساحاتها، التي كانت إلى حين، تابعة لدائرة نفوذها وتقسيمها التواصلي، ما لم تبادر الوسائط الحية، ببسط ما أمكن من سيطرتها على هذه الكمائن، المعلوماتية، في أفق وضع خريطة طريق جديدة، معززة بإبدالاتها المستقبلية، المتحررة من المفاهيم المبتذلة لحرية القول وحرية التلقي.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني
مقالك رائع في تحليل واقع نائم في تاريخ نفسه وواقعه يعيش عصرا يخطو بزمن متسارع فيعيش على هامش وجوده بوعي مقلوب. تحياتي لاطروحاتك المنفردة وسط عالم الدجاج والعجاج.