أزمة النفايات المستفحلة منذ أكثر من شهر في لبنان على خلفية اقفال مطمر الناعمة والاتضاح النافر لحجم السلب والنهب في هذا القطاع مع الاضرار بالبيئة والانسان هي «أزمة – مصيدة» بالنسبة للنموذج الذي تقوم عليه الدولة اللبنانية.
فهي تبدو من جهة قضية وفضيحة تشبه سابقاتها، فيحدث الهرج والمرج حولها، إلى ان يلمع نجم قضية فضائحية جديدة، لكنها تبدو من ناحية آخرى «أزمة تعجيزية»، أزمة لا حل لها دون مراجعة في الصميم للنموذج الذي تقوم عليه الدولة في لبنان، اذ لا يمكن تسكينها أو تأجيل حلّها باعتماد اللزوجة نفسها التي استخدمت حيال مسائل أخرى، بل يمكن أن يعيش البلد من دون رئيس جمهورية، ومن دون حل مشكلة السلاح فيه، ومن دون انتخابات برلمانية، ومن دون حدود وطنية، وكل هذا حاصل حالياً، لكن لا يمكن أن يؤجل البت في موضوع النفايات، واسوأ من ذلك فإن الحلول الترقيعية في هذا الموضوع، والعشوائية المتمثلة بدفن النفايات هنا أو هناك بين المناطق السكنية وفي المجاري المائية والمواقع الطبيعية بشكل صلف وغبي للغاية ارتد سلباً على السلطة التنفيذية وصورتها، حيث ظهرت بشكل طفل له مشكلة مع النظافة لأنه يخبىء أوساخه تحت سريره، وهذا الأمر، معطوفاً على انزلاق هذه السلطة إلى اعتماد لغة الفظاظة الأمنية مع المحتجين، بعد وقت قليل من فضيحة تسريبات التعذيب في سجن رومية، قد زادت من النقمة ثم الحركة الشعبية، وكان أطرف ما في الأمر آن غارت هذه السلطة التنفيذية على «هيبة الدولة»، في الوقت الذي بدت فيه هي.. معدومة الهيبة.
لكن كل هذا ليس الا بعض الواقع. استكماله بأن هذه السلطة التنفيذية تفصح عن مفارقة. هي تتعامل مع المشكلة المتفاقمة، ومع الناس، كما لو انها سلطة حاكمة، وهذا ليس دقيقاً، ويجري التعامل معها من قبل الناس كما لو أنهم محكومون من قبلها وهذا ليس دقيقاً. من العبث بالتالي اجتراح مشاريع لاصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذا الاطار. لا يعني ذلك انها سلطة صورية، ابداً. لديها اجهزة امنية، وبعضها يتجاوز «فطرياً» القانون مثل كل الاجهزة الامنية في العالم العربي، لكنها سلطة تستمد حيثيتها من امرين: فلو شئنا الاختزال بعض الشيء لايضاح الوجهة لقلنا بأنها حكومة 14 آذار التي يتخذها «حزب الله» حلاً له أو متعة. هذا الحزب أجهزها. هذا الحزب سمح للعماد عون بتخريبها من الداخل. هذا الحزب رد على تهديد رئيسها تمام سلام بالاستقالة بتهديد التهديد نفسه.
وهي على صعيد متصل حكومة تستمد شرعيتها من كونها «أفضل من الفراغ التام». هذا لسان حال من يبرر استمرارها. لكنها في الوقت نفسه تبحر بلا خارطة طريق حيال اي من الموضوعات المعطلة او المفرغة. اذ يبدو مبهما كيف سيمكن للبلد بعد سنتين على تعطل الانتخابات النيابية فيه وسنة ونصف على شغور رئاسته الاولى ان يتمكن من توليد مجلس نيابي جديد او رئيس عتيد. في لبنان اليوم هرطقتان دستوريتان. واحدة تحمل بالاحرى لمسات 8 اذار وقوامها تجويز تعطيل انتخابات رئيس الجمهورية بتطيير جلسات النصاب إلى ما لا نهاية.
وثانية تحمل لمسات 14 اذار اساسا وعنوانها: الرد على الهرطقة بالهرطقة، باغفال ان الدستور اذا كان لا يسمح بأن لا يمارس النواب واجب انتخاب رئيس للدولة فانه لا يسمح أيضاً بولاية الغائب، أي أن تحكم الحكومة كما لو أن رئيس الدولة الغائب حاضر فيها بروحه، هذه الروح الذي يتخاصم عليها السني والمسيحي العوني حالياً، فالسني يراها مجسدة في شخص رئاسة الحكومة والمسيحي العوني يريدها في شخص العماد ميشال عون كونه الأكثر شعبية بين المسيحيين، وهناك من يحسب انه يحل المعضلة باقتراح ان تحلّ روح رئيس الجمهورية الغائب في مجلس الوزراء مجتمعاً، وتلك واحدة من جملة فوازير اتفاق الطائف.
أزمة النفايات تعجيزية للحال الذي وصلت اليه مؤسسات الدولة الدستورية (النظام السياسي) لكنها ايضاً تعجيزية لكيان الدولة، جهازها، المنتفخ، حول مدينة بيروت، والذي لا يستطيع ان يفهم ان مسألة النفايات تحديداً، في اي بلد من العالم هي جزء من العقد الاجتماعي البيئي بين مختلف المناطق والشرائح. ليس الموضوع اذاً «ان تضحي» منطقة لأخرى، على ما سمعناه من هراء البازار التراشقي حول مكان الطمر البديل للنفايات.
الموضوع يتعلق بأن دولة تقوم قائمتها على استبعاد العقد الاجتماعي والبيئي باسم الميثاق الوطني هي دولة معطوبة. كل الحلول المقترحة حالياً تؤبد المشكلة طالما أرادت الابقاء على مركزية الدولة، سواء تحدثت عن لامركزية معالجة النفايات او لا. فهذه المعالجة كي تستقيم بشكل مزمن وفعال ينبغي ان تتواشج مع برنامج جذري للتحويل في اتجاه لامركزي يستعيد شيئاً من روح الفدرالية وليس بالضرورة صيغة منها، أي يؤسس للامركزية ليس فقط ادارية انما ايضا بيئية وثقافية، وربما ينقل العاصمة إلى مدينة في وسط البلاد، كمدينة زحلة، كي يعاد التوازن إلى الجسد اللبناني بدلا من تضخمه المريع حول بيروت وضواحيها، وهو تضخم لم يسمح على اية حال للاقاليم الاخرى بأن تتفادى التخريب البيئي، بل أحدث تماماً العكس.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
لماذا الطمر للنفايات بدلا من حرقها
لماذا لا يبنى مجمع لحرق هذه النفايات توفيرا للأرض
ثم تستغل حرارة الحرق بتدفأة المصانع والمدارس والمجمعات السكنية
ولا حول ولا قوة الا بالله