ربما يبدو هذا العنوان غير مقبول لمن ينظرون إلى تركيا بشكل رومانسي يجعلها أقرب لصورة وريث الخلافة العثمانية، ويجعل من رئيسها أردوغان، الذي كثيراً ما تشكل صورة أتاتورك خلفية لخطاباته، سلطاناً جديداً.
مثلما يعظّم أولئك المواقف الإيجابية لتركيا ويصورونها وكأن الهدف الوحيد منها هو نصرة الإسلام والمسلمين، يقومون في المقابل بتبرير سياساتها البراغماتية والمتناقضة، فتصبح العلاقات التركية مع كل من إيران والكيان الصهيوني مقبولة، كما يصبح أي قرار يتخذه أردوغان حكيماً، سواء كان فتح الباب أمام المهاجرين السوريين، أو لاحقاً غلقه بإحكام.
أولئك يذكرونني بقول الشاعر: «وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة». بالفعل فإن «عين الرضا» هذه لا تهتم كثيراً بالنظر إلى الواقع، وتكتفي بتثبيت نفسها في جدار النظرة الموازية لتركيا الافتراضية، التي لا وجود فعلي لها إلا في ذهن أولئك الذين يتحدثون بلا توقف عن «المشروع الإسلامي» لحزب العدالة والتنمية، وعن نصرة الحزب والقيادة التركية لقضايا العرب والمسلمين، وعلى رأسها مسألة فلسطين، وحين يتم تذكيرهم بالعلاقات التركية التاريخية مع الكيان الصهيوني التي لم تنقطع حتى الآن بشكل تام، فإنهم سرعان ما سيخبرونك بأن المصلحة اقتضت ذلك، وأن هذه العلاقات الجديدة وهذه الشرعية المتجددة للكيان سوف تصب في صالح المقاومة بما ستقدمه من منافذ لكسر الحصار عن غزة، كما أن العلاقة الطيبة مع تل أبيب قد تؤدي إلى تحسين العلاقة مع موسكو.
لدى أصحاب فرضية تركيا الإسلامية دائماً مبررات لكل شيء حتى أن لبعضهم كتابات وإطلالات على الشاشات، حاول أن يجيب فيها عن السؤال الذي حيّر الملايين وهو: إذا كان أردوغان إسلامياً فلماذا لا يطبق الشريعة؟ سمعت عدة إجابات عن هذا السؤال من قبل متحمسين عرب وكان معظمهم يصر على أن حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي بالأساس، ولكنه وللخصوصية التركية، يتبع أسلوب التدرج، ولذلك فهو لا يعلن هويته بشكل صريح ولكنه يستفيد من العلمانية من أجل خدمة الإسلام.
الإجابة المبنية على قراءة سحرية للنوايا تبدو لأول وهلة مقنعة، وبالنسبة حتى إلى كثير من المتحمسين للفرضية تبدو فكرة تطبيق الشريعة أو المجاهرة بإعلان تركيا دولة إسلامية، في هذا الظرف، فكرة انتحارية. قد يبدو ذلك مقنعاً، لكن ما أراه أقل إقناعاً هو أن يتبارى أولئك لإيجاد العذر للقيادة التركية في تأخير تطبيق الشريعة، وفي التطبيع المعلن مع تل أبيب، وفي إتباع سياسات تعادي التصور الأصولي للدولة المسلمة، بحسب الأدبيات التراثية، أن يحدث ذلك في الوقت الذي يصل فيه عداء تلك النخب نفسها لبعض الدول العربية درجة إباحة رفع السلاح في وجه شوارعها مطالبة بتحكيم الإسلام.
صوت المنطق يقول إننا إذا كنا نجد العذر في التدرج والبراغماتية لتركيا، وهي إحدى الدول المهمة على خريطة الإقليم، والوحيدة التي تشكل جزءاً من منظومة حلف الناتو وتتمتع باقتصاد نام وصناعات متقدمة، فمن الأولى أن نجد العذر لغيرها من الدول المستضعفة، التي تخشى أن يلتهمها الآخرون إن تخلت صراحة عن العلمانية، أو أعلنت تحكيم الشريعة، أو أظهرت معاداة الكيان الصهيوني. أما أن تخرج بعض الأسماء على هذه الدولة العربية أو تلك بحجة الاختلاف مع نظامها الذي ترى أنه عميل ومرتد يستحق أن يعامل معاملة «ديار الكفر» مقارنة بالموطن التركي الجديد، «ديار الإسلام»، فهذا ما لا يمكن أن يدعمه عاقل.
الجدير بالذكر هنا هو أن ذلك النقاش حول الدولة الإسلامية وحول الشريعة وتطبيقاتها والتدرج فيها هو نقاش عربي بامتياز ولا وجود له على ساحة المجادلات السياسية التركية، لا إبان الانتخابات ولا حتى خلال التغيير الهيكلي الأخير الذي أفضى إلى استبدال داود أوغلو وتشكيل حكومة جديدة في أنقرة. كان حزب العدالة والتنمية يصر على الدوام على علمانيته ولم يحدث أن انتقد قادته، وعلى رأسهم أردوغان، مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك الذي يعتبر في نظر الكثيرين رائد العلمانية المعادية للدين في العالم الإسلامي. وحتى لا يظن أحد أن هذا هو توجه جديد للحزب اقتضته الظروف الدولية والإقليمية، نذكّر بخطاب أردوغان في جامعة القاهرة نهاية عام 2012، الذي أغضب حينها البعض، خاصة وهو يظهر انحيازاً للعلمانية كطريق لحل المشكلات الداخلية والوصول إلى سلام مجتمعي.
لكن المنظار الخادع ستتم استعادته لاحقاً مع تعقيدات المنطقة الجديدة، وحين تتعامل تركيا مع أحداث 30 يونيو المصرية وما تلاها على أنها انقلاب غير شرعي، سوف يتم تفسير ذلك بانحياز أردوغان إلى إخوان مصر، وكذلك سيتم تفسير الدعم الذي وجده الشعب السوري منذ بداية الثورة من قبل القيادة التركية بأنه دعم للإسلاميين المعارضين مقابل النخبة العلمانية الحاكمة، وهو ما سيروج له بقوة تجعلنا ننسى العلاقة الوطيدة التي كانت تجمع قيادة البلدين قبل اندلاع الأحداث، كما تجعلنا ننسى أن البراغماتية التركية في عهد العدالة والتنمية لم تكن أبداً رهينة بتوجهات الغير الطائفية أو الأخلاقية. أصدقاء تركيا المفترضون هؤلاء ربما ينطبق عليهم المثل القائل «عدو عاقل خير من صديق أحمق»، فهم بهذه الدعاية المجانية وغير المبررة قدموا خدمات مهمة لأعداء الدولة التركية الذين يريدون إظهارها بشكلٍ داعم للحركات الجهادية في العراق والشام، لدرجة وصلت لاتهامها بدعم وتمويل تنظيم «الدولة»، كما أنهم بهذا قد أساؤوا إلى علاقاتها بالدول الخليجية، التي تخوفت من أن يكون لدى الأتراك نوايا فعلية لدعم حركات سياسية معارضة ذات توجه إسلامي، ما يهدد أمن تلك الدول. أيضاً فقد شوّش أولئك الأصدقاء- الأعداء على مسيرة تركيا ومفاوضاتها للانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث بات عدد كبير من الأوروبيين يرى أن تركيا لا تريد أن تكون مجرد شريك في النادي كغيرها، وإنما تريد أن تلتهم هذا النادي وتفرض سيطرتها عليه. ليس فقط ذلك، بل قد ساهمت تلك الدعاية المضللة، التي لا أساس لها، والتي تبالغ في وصف حزب العدالة والتنمية بالإسلامي، في إثارة الشكوك داخل تركيا نفسها تجاه إمكانية أن يقوم الحزب بنقض الديمقراطية وتغيير الهوية العلمانية للدولة، وهو السبب الرئيس في وجود معارضة حادة لاقتراح أردوغان تحويل نظام الحكم إلى رئاسي.
يمكننا أن نفهم الامتنان الذي يكنه المعارضون الإسلاميون للدولة التركية، ولشخص أردوغان الذي استقبلهم وسمح لهم بالإقامة كمنفذ وحيد بعد أن أغلقت دونهم الأبواب، لكن هذا لا يعطي أحداً الحق في أن يتحدث نيابة عن الأتراك، أو أن يزايد على وطنية الأحزاب التركية الأخرى، لمجرد كونها معارضة للحزب الحاكم، وهو بالتحديد ما ذكره عمر قورقماز مستشار الرئيس التركي، الذي قال معلقاً على التصريحات الحماسية التي صاحبت مهرجان «شكراً تركيا» والتي أطلقها بعض شيوخ «الإسلام السياسي»، أنه ليس من حق أحد أن يتجاوز السياسة المعلنة لحزب العدالة والتنمية، وأن مثل هذه التصريحات والشعارات هي من أفشل تجربة النهضة في البلدان العربية.
من المواقف الطريفة التي تدلل على بساطة الأصدقاء العرب لتركيا هو تلك الشائعة التي خرجت قبل أسابيع، حينما تزايد القصف على حلب، والتي مفادها أن تركيا قد قررت التدخل العسكري لحماية المدنيين. طافت هذه الشائعة مجهولة المصدر وسائل التواصل الاجتماعي وسط تغريدات وتعليقات متحمسة ودعوات بالتوفيق لتركيا، نصيرة العرب والمسلمين وزاد صاحب الشائعة بأن قام، مستغلاً جهل الغالبية باللغة التركية، بفبركة تصريح لأردوغان عبر وضع ترجمة مختلقة لخطاب سابق متلفز تفيد بصحة الخبر. في لحظة الحماس تلك لم يكن التذكير بعدم إمكانية التدخل التركي على الأرض ممكناً. بأن تركيا هي جزء لا ينفصل عن المنظومة الدولية ولا يمكن لها أن تتحرك بمعزل عن الأطر الدبلوماسية، أو بشكل مستقل عن تحالفاتها الدولية، وأنه لو كان الأمر بهذه السهولة لفعلته منذ سنوات، ولما اكتفت بالدعوة لمنطقة حظر جوي.
هذه النظرة غير الواقعية خطيرة للغاية لما فيها من تخدير وتضليل، فحينما تقوم تركيا بإنشاء مجلس تعاون استراتيجي مع دولة قطر، يفسر ذلك بأنه تعاون بين «الإخوان» وهو افتراض شائع، لكنه لن يستطيع تفسير ما قامت به تركيا في الوقت ذاته من إنشاء تحالف مماثل مع السعودية قد يرقى لمرتبة التحالف الأمني والعسكري الاستراتيجي. الفرضية الإخوانية تلك لن تستطيع تفسير العلاقة التركية مع دولة الإمارات التي شهدت تطوراً ملحوظاً خلال الأشهر الأخيرة، في ظل رغبة من الجانبين في تعميق التعاون على مختلف الأصعدة.
الخليج بضفتيه العربية والفارسية مهم لتركيا، ولذا فهي تحاول أن توزن علاقتها بشكل يجعلها تنأى بنفسها عن الصراعات الطائفية والحزبية، وهو ما يمكن تلخيصه بالقول بأن المصلحة الاقتصادية وليس المنطلقات الدينية أو العقائدية هي التي تحدد علاقات تركيا مع الأطراف الخارجية.
الخلاصة هي أن تركيا دولة بغالبية مسلمة محبة للإسلام وللدور الذي لعبه في تشكيل تاريخها. الشعب ونخبه السياسية، من الحزب الحاكم وغيره، يتفقون على احترام مظاهر الثقافة الإسلامية التي تجلت عبر التاريخ الطويل للدولة العثمانية التي يفتخر بها الجميع. لكن ما بين كل ذلك وما بين وصف تركيا الحالية بأنها دولة إسلامية، على الطريقة التي تبشر بها أدبيات الإسلام السياسي، بون شاسع.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
قصير النظر هو من يجعل شعاره (اعلل النفس بالامال ارقبها ما اضيق العيش لولا فسحة الامل )
مقالك يا دكتور مدى مع الأسف واقعي لكننا كمسلمين وقعنا فريسة للصفويين وللصليبيين وللصهاينة ولعساكرنا (الغير وطنيين) نتشيث بكل قشة لكي نطفوا بها بدلاً من الغرق باليأس ! ومع هذا فمواقف تركيا إتجاهنا ليست عدائية كما هي مواقف غيرها
ولا حول ولا قوة الا بالله