ولم يكن الشيطان ثالثنا!

حجم الخط
26

كنت أنوي اليوم كتابة «لقاء مع القراء» لكن موت الأحباب فرض نفسه على قلمي. وقد حاولت تأجيل تسطير هذه الكلمات طوال شهر كي أتحاشى البكاء على كتف القارئ، ولدى كل قارئ ما يكفي ويزيد من الأحزان الشخصية.. لكنني لا أتقن فن الكذب الأبجدي وأعترف بحزني لموتين: لمن لم أعرفها، ريم البنا ولموت أخ وصديق عرفته وعملت معه طويلاً هو الصحافي الشاعر حافظ محفوظ.

ريم: مقاومة سرطان الاحتلال الإسرائيلي!

لا أعرف ريم البنا المطربة الفلسطينية ولكن موقفها الشجاع من مرض السرطان أسرني حين أعلنت انها ستقاومه وستشفى، وكانت رائدة عربية في الإعلان عن مرضها الذي يتستر عليه الكثيرون.
وجدت في موقف ريم البنا من مرضها ورغبتها الشجاعة في مقاومته الكثير من روح المقاومة الفلسطينية ضد السرطان الإسرائيلي. لقد انتصــر المرض. ورحـــلت الجمـــيلة ريم وذلك يذكّرني برواية «الشـــيخ والبحــر» لهمنغـــواي التي نال عليها جائزة نوبل حيث لحقت الهزيمة بالشيخ أمام الحيتان لكنه ظل مصراً على المقاومة. ريم هزمها المرض لكنه لم يقهر لديها إرادة المقاومة.. كما المقاومة الفلسطينية في كل حقل.. وداعاً أيتها الفلسطينية الجميلة بمعاني الكلمة كلها: ريم البنا.

رحيل حافظ محفوظ: مفاجأة أليمة

اما أخي وصديقي الراحل الصحافي اللبناني البريطاني الشاعر حافظ محفوظ إبن مرجعيون في جنوب لبنان ورئيس تحرير مجلة «الحصاد» اللندنية فحكاية أخرى تطول..
في مقهى (الهورس شو) تعارفت مع حافظ حين وصلت من دمشق إلى بيروت وتعاملت مع حافظ على نحو أسبوعي حين صار مديراً لتحرير مجلة «الحوادث» في لندن وكنت أكتب صفحتها الأخيرة من باريس وشاركته حزنه لرحيل صديقتي شريكة عمره إنعام ووالدة أولاده بسام (عضو المجلس البلدي ـ لندن ـ إيلينغ) وفيكي وماريا..
كان التعامل المهني مع حافظ محفوظ مريحاً جداً وهو الشاعر المرهف بل إنه إكراماً لي كان يصحح بنفسه «لحظة حرية».

حافظ: رئيس تحرير لم يلحظ ذلك!!

حين توقفت «الحوادث» عن الصدور لم يتوقف تواصلنا الهاتفي بين لندن وباريس. كان حقاً عفيف اللسان وطيب القلب في أزمنة متوحشة. ولعله رئيس التحرير الوحيد الذي كان يبعث بنفسه إلى الأصدقاء بمجلة «الحصاد» اللندنية التي أسسها وقام برئاسة تحريرها حتى رحيله، كان يكتب بنفسه عنواني ويذهب إلى البريد لإيداعها بنفسه.. وتلك لفتة استثنائية نادرة.
وفي مخابرتنا الهاتفية الأخيرة اتصل بي ليطلب مني ترجمة ما جاء في التقرير الأخير لفحصه الطبي وهو بالإنكليزية التي لا يتقنها حافظ. وعلى الرغم من أنني لست طبيبة لم يعجبني ما سمعته. وطلبت منه إطلاع ابنه بسام عليه فوراً. وكان ذلك حوارنا الأخير: رحل بعدها بعشرة أيام!

صداقات أخوية جميلة..

أحب التذكير بعلاقات إنسانية تولد في حقل العمل كعلاقتي مع الراحل حافظ محفوظ الذي سأبكيه دائماً وأفتقده، علاقات صداقة تنبت في مكان العمل وتستمر..
ومن أجمل الأمثلة على ذلك صداقتي مع الصحافي إبن صيدا ـ لبنان عاطف السمرا.. ذات ليلة اتصلت بعاطف وقلت له إنني قررت ترك بيروت وسأذهب للإقامة في لندن. سألني وهو الصديق الحميم لي ولغسان كنفاني وكان يرافقنا في الكثير من سهراتنا وجاء ذكره في العديد من رسائل غسان لي… سألني: هل أنت هاربة من صلتك برجل متزوج وأب لطفلين؟ لم أجب بل قلت له: أرجو أن تمر بي غداً باكراً لأسلمك سيارتي ومفتاح بيتي لترمي بأثاثه وتعيده إلى المالك بعد ثلاثة أشهر حين ينتهي مبلغ الأيجار الذي كنت قد دفعته مقدماً.. ورحلت لكن عاطف لم يرم بالأثاث الجديد لبيتي وكان قد رافقني يوم اشتريته بل أودعه لي في مكان آمن. وكم تأثرت حين جاءت زوجة عاطف السمرا وغسلت ستائري البيض وكوتها واحتفظت بها لي.

مات والدك؟ ولكن اكتبي..

كان الصديق عاطف السمرا سكرتير تحرير مجلة «الأسبوع العربي» يمر بي لاستلام مقالي الأسبوعي حين لا أذهب بنفسي إلى مبنى المجلة في حي «الأشرفية» – بيروت لتسليمه وكان ذلك قبل زمن الفاكس والإيميل.
جاء ذلك اليوم ولما تمر على وفاة أبي عدة أيام وكنت (بحالة) يرثى لها تجاهل ذلك وسألني: أين المقال؟
قلت: لم أكتب شيئاً. لا أستطيع.
ـ بل تستطيعين، الكتابة طوق نجاتك.
كنا في شهر آب/أغسطس (اللهاب) وجرني عاطف من يدي إلى الحمام ووضع رأسي تحت صنبور الماء البارد وقال: الآن إجلسي واكتبي.
وهكذا كان. وكتبت عن والدي الحبيب.. وظللت أكتب. هذه هي الصداقة الحقيقية. فقد ظل عاطف جالساً حتى أنجزت الكتابة.
والحكايا تطول مع عاطف وزوجته وحافظ وأصدقائي الذكور الذين عملت معهم في حياة مهنية طويلة لم يكن الشيطان ثالثنا فيها.. وستحتل فصولاً في مذكراتي..
وإلى «لقاء مع القراء» في الأسبوع المقبل.

ولم يكن الشيطان ثالثنا!

غادة السمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ahmad:

    عندما انتهيت من قرأة تعليق الاستاذ سوري و هو يتحدث عن سوريا شعرت و كأنني كنت اتابع واشاهد فنان رسام محترف يرسم لوحة زيتية.

  2. يقول كازوز بارد:

    لماذا هذا العنوان الذي يرمز لاحد احاديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
    وكانك تقولين انك اختليت مع اصدقاء ذكور لك ولم يكن الشيطان ثالثكما
    الاختلاء مع الرجال شانك ولك رب يحاسبك على اعمالك. لن يسال احد عنك

  3. يقول عبد المجيد-المغرب:

    ذكرني عنوان مقالك- أستاذة غادة السمان- بعنوان لقصة قصيرة قرأتها منذ أزيد من عشرين سنة للكاتبة اللبنانية هاديا سعيد. يقول العنوان: (الشيطان ليس بيننا) وإذا لم تخني الذاكرة فالقصة تنتهي هكذا: الشيطان ليس بيننا.. فمن يضعه بيننا ؟ والقصة تدور-كما مقالك- عن الزمالة في العمل التي تجمع أنثى بزملاء من الذكور. وتتحدث عن الفخاخ التي يمدونها في طريقها -وهي البريئة- لإسقاطها بين براثن رغباتهم الجامحة.
    وطبعا، شتان بين الصداقة والعلاقات الإنسانية الرفيعة التي تحدثت عنها-أستاذة غادة- في مقالك، والزمالة والعلاقات المغرضة، في قصة (الشيطان ليس بيننا) للكاتبة هاديا سعيد!

  4. يقول منى-الجزائر:

    مساء الخيرات والبركات…
    للصداقة معنى عميق وانساني راق جدا ..لايعرف قيمتها الاّ من عاشها حقيقة مع أناس حقيقيون…
    سلامي لكل اصدقائي الاحبة الذين جمعتني بهم صفحات قدسنا…
    لكم مني كل الحب والاعتزاز والتقدير…
    افانين،واستاذي سوري،و نجم وابن الوليد و اثير و رياض وغادة ورؤوف وعمرو وماجدة واسامة وداوود…وغاندي ..مع حفظ الالقاب والمقامات …
    واعتذر لكل من سقط اسمه سهوا…
    اخي اسامة ….حبذا ولو يهتم احد بهذا الموضوع خاصة اصحاب الخبرة في هذا المجال…لربما تجمعنا قدسنا في مكان ما من هذا العالم الفسيح نلتقي وجها لوجه لنبقى اصدقاء دوما….

  5. يقول رؤوف بدران- فلسطين:

    الى الغالية منى- الجزائر والف ..الف تحية ابعثها لكِ ولكل معلقي لحظة حرية !! لقد بعثت بتعليقي منذ ساعات الظهيرة ولم يظهر حتى هذه الساعة اي مساءً , ربما المشكلة هي تقنية متعلقة بالانترنت . مع ذلك لكم جميعًا اجمل المنى والسلام.

  6. يقول حسين/لندن:

    أيقونة الأدب العربي وياسمينة الشام
    أسعد الله أوقاتك،،،،وأوقات الجميع
    هي مجرد ملاحظة على ما تخطه يمينك ……(سأشعر بالحرج لو كنت عَسْراءُ) ،،،
    لا يكاد يخلو مقال لك من ذكر فلسطين أو أهل فلسطين وبشكل مباشر حتى ليظنك من لا يعرفك أنك فلسطينية ثائرة،،وكيف لا وانت فلسطينية الهوى والوجدان،،،ويتضح ذلك من كلماتك،،،
    أشكرك كفلسطيني على اهتمامك بنا وبقضيتنا،،،
    وبالنسبة لرحلة الكبيرة ريم البنا التي هزمها المرض ولم يهزمها الكيان السرطاني الصهيوني،،لا أجد أجمل من اقتباس كلمات من تعليق الأخ الاستاذ سوري (لم تكن ريم البنا” مطربة” يوما. كانت نايا يشدو أحزان أمة بأكملها. رحلت البنا وبقي الناي يصدح) تعليق بسيط عميق ورائع ،،
    تحياتي لجميع الأخوة والاخوات رواد هذا الصالون الدافيء

  7. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    تحية طيبة خالصة لكل قرّاء ومعلقي القدس وكذا إلى طاقمها الفاضل دون نسيان “غادتنا بنت السمان أيقونة الأدب وأميرته دون منازع وذلك لعدة إعتبارات مهنية ووعلاقات متميزة مع محيطها…”
    كما لا يفوتني أن أسأل عن غادة الشاويش إبنتنا اتي إشتقنا لها كثير نتمنى لها أن تكون بكل خير…
    أمّا بعد..
    (ريم: مقاومة سرطان الاحتلال الإسرائيلي!-صداقات أخوية جميلة..مات والدك؟ ولكن اكتبي…)
    محطات وشحت بها مقال السيدة الفاضلة “غادة السمان مقالها الرائع تدل على كثير من المعاني السامية التي التي تنم على روحها الصافية..فريم إن ماتت جسدا فهي شوكة في حلق اليهود بكلماتها الصادقة التي كتبتها بدموع عيونها وسقتها بدمها الجاري بعروقها وصدحت في وجه اليهود بكلمات كانت أقوى من رصاصهم..
    وصدقات السيدة “غادة” كان نتاجها أدبا وإنتاجا قد زاد المكتبة العربية نموا وعددا ومكّن الفكر العربي وغيره ممن إستفاد من عمل “غادة” ثراء في اللغة والمعرفة وإدراك بعض مناحي الحياة التي كانت “طبوها”في زمن “ما” وما هذه الصدقات إلاّ دافع لتجديد الطاقة والتبادل المعرفي
    مات وادك ولكن أكتبي…هذه مواساة تنم عن الشعور بالآخر لتدفعه ليتخلص ممّا يعانيه من حزن وضيق وهي خطوة قليل ممن يعرف كيف يخطوها مع المصاب …
    مع إحترامي وتقديري لكل الأراء والتعاليق حول الموضوع ولصاحبة الموضوع
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  8. يقول Abdelaziz Ananou (المغرب):

    شكرا على ما سطرت من كلمات تنفذ إلى أحاسيس تدغدغها؛ عن زمن دافئ كنا نرى أسماء مجلات، مازال رنين اسمائها في الأذن…
    كان الطفل يقرأ أسمائها كلما مر من أمامها معروضة في الأكشاك… أما تصفحها، فينتظر أن تدخل يوما إحداها إلى المنزل، فيهرول يقلب صفحاتها يستنشق عبير الورق…
    .
    في تلك السن، قرائته لا تتعدى العناوين، ويقف طويلا عند الصور… وجد يوما صفحة، فهم من عنوانها أنه حوار، وصورة أخذت نصف الصفحة أو تزيد…أعجبته الصورة، نظر إليها مشدوها يقرأ حروف وجه سيدة، ولم يقرأ الموضوع، فقد كان فوق طاقته…
    السيدة هي أنتِ يا إيقونة الأدب…والطفل هو أنا…وكان بيننا شيطان… شيطان البرائة….

  9. يقول Passer-by:

    نحن أصلاً مجتمعين يا أسامة شئنا أم أبينا، ليس فيزيائياً (أي جسدياً وجها لوجه) ولكن مجتمعين على الجرح النازف أبداً (بدأً بمهوى القلوب “فلسطين” ولكن ليس انتهاء بسوريا) أو كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي:
    قد قضى الله أن يؤلِّفنا الجر…. حُ، وأَن نلتقي على أَشجانه
    كلما أَنّ بالعراقِ جريحٌ…….. لمس الشرقُ جنبه في عُمانه
    وعلينا كما عليكم حديدٌ………. تَتنزَّى اللُّيُوثُ في قُضبانه
    نحن في الفقه بالديار سَواءٌ…….. كلُّنا مشفِقٌ على أَوطانه
    أم ترى أن شوقي كان مخطئاً، لقد بح صوت الثكالى في العراق ولم يلمس الشرق العربي جنبه في عمانه ولا المغرب العربي في وهرانه! ولكن أخشى أن يكون أصابنا ما قاله المتنبي:
    أنا في أمة تجاوزها الله ……غريب كصالح في ثمود.

  10. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    اثني على ما ورد في تعليق اختي العزيزة و الزميلة الفاضلة منى مقراني
    ، كما اجدد دعوتي و رغبتي بلقاء يجمعنا و ذكرنا به الاخ الكريم اسامة كليّة ، و اجدد دعوتي و تمنياتي الى الاستاذة غادة أن تكون عرابة هذا التجمع و الملتقى .
    .
    من أعلى و اجمل القيم في الحياة الإنسانية هي قيم الصداقة
    و في الكثير من الحالات ، يكون صديق ما اقرب الى الانسان من من هم من رابطة الدم أو حتى رفيق الحياة !
    فهناك من الاصدقاء من تسرهم و تستشيرهم بما لا تسر و تستشير فيه الاخ او الاخت أو الزوج، ولهذا سميّ الصديق المقرب ، بالخليل في لغة العرب.
    .
    و ربما لم يمر عليّ وصف للصديق والخليل كما عبّر عنه شعر للإمام الشافعي :
    .
    اذا المرء لا يرعاك الا تكلفا
    فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
    :
    في الناس أبدال وفي الترك راحة
    وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
    :
    فلا كل من تهواه يهواك قلبه
    ولا كل من صافيته لك قد صفا
    :
    اذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
    فلا خير في ود يجيء تكلفا
    :
    ولا خير في خل يخون خليله
    ويرميه من بعد المودة بالجفا
    :
    سلام على الدنيا اذا لم يكن بها
    صديق صدوق صادق الوعد منصفا

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية