ولونه برتقالي…

لقد قررنا أن نركز مقال هذا الأسبوع على لون… وهو اللون البرتقالي.. فهو يستأثر بنصيب وافر من أحداث شؤون الساعة، وتختلف فيه المدلولات والإحالات باختلاف الرسالة المراد إيصالها بهذا اللون الفاقع.
مرة جديدة عاد إلى السطح نبأ اعتزام باراك أوباما إغلاق معتقل غوانتانامو وتوزيع سجنائه عبر باقي مراكز الاعتقال الموجودة في الولايات المتحدة. سجناء لم يغب عن أذهاننا أنهم يرتدون الزي…البرتقالي.
لكن لم يغب عن أذهاننا أن اللون البرتقالي كان أيضا لون الثورة الأوكرانية في 2014. فجاء المثلان شاهدين على قدرة «البرتقالي» على الجمع بين متناقضين: اولهما مرتبط بنيل المشتبه فيه – أو المدان- جزاءه، بينما يدخلنا الثاني صراحة في الزخم الثوري فيقيم منصات ويرتب واجهات للمطالبة بالحريات والحقوق والكرامة. كما ظل البرتقالي لونا استلهمه الأدباء، وأتذكر هنا ذكرى شبابية قوية لرواية الكاتب الامريكي اللاتيني جوزي مورو دي فاسكونسيلس يحمل عنوان «شجري الجميل البرتقالي»، ثم اتذكر أيضا «رواق بساتين البرتقال» – هكذا سميته – و هو الذي كنت أرتاده طفلا مساءات عودتي من المدرسة في أغادير المغربية. وكأن البرتقالي ذو آثار لم يخلفها غيره من الألوان في المشهد العام الراهن. وهذا ربما لأن هذا اللون الفاقع بامتياز لا يتجزأ مما نعته الفيلسوف الفرنسي جي ديبور بـ»مجتمع الفرجة».
تحف بمجتمعنا تقلبات تجعله يكاد لا يستقر على حال، وعدم الثبات هذا، ناهيك عن غياب قدرة حقيقية على استشراف ما يحمله المستقبل في جعبته، يجعلنا نعيش في محيط يبثّ رسائل مفعمة بالعاطفة والفورية معا، ويبحث دائما عن أشكال وأنماط تعبير مصاحبة، ولأننا أنفسنا سجناء هذه الآنية التي تسيّجنا من كل حدب وصوب، فقد غدت قيمنا ومحدداتنا الأخلاقية وشبكة قراءتنا للأحداث منوطة بالآنية نفسها. وصرنا نتحرك بالتالي داخل بيئة تنتج لنفسها سلسلة علامات تشكل بطاقة هويتها، ومن هذه العلامات، الألوان. وليست صدفة أن اختارت وكالة رويترز للأنباء اللون البرتقالي لونا رئيسيا في تصميم واجهاتها، كما اختارت قناة «الجزيرة إنكلش» اللون البرتقالي خلفية لوتيرة أخبارها العاجلة التي نتابعها أسفل الشاشة… وبرتقالي أيضا هو أحد معاطفي التي بها أتقي الأمطار الغزيرة التي تنهال علينا سيولا في فترات معينة من السنة في فرنسا. وقيل لي بشأنه، «حسن هو لأنه يرى من بعيد». لون برتقالي يخطف الأنظار، يحبب مشاهدة الأخبار، ولحشد الجماهير يصبح المعيار. يحيل المختصون في رمزية الألوان إلى دلالات معينة للون البرتقالي ترتبط بالحرارة والشمس (وليس الأصفر خلاف معتقد شائع)، والنور والحفاوة. ويحيل غير المختصين برمزية الألوان اللون البرتقالي إلى قوة تأثيره كلون «صارخ»، بغض النظر عن مدى تناسبه مع «السلّم الإيحائي» الذي رتبه مختصو رمزية الألوان وتدرّجاتها، وكأن مهندسي الصورة يمتحون من الطبيعة الدلالية للون ليكيّفوها بمبضع الجراح على… صورتهم هم…أو بالأحرى على الصورة التي يريدون لها أن تترك أثرا بل مكانة. دعوني أختم مجددا بذكرى من ذكريات طفولتي ولنشبه بها صناعة الصورة.. بصناعة الخبز…
يحكى في حكاية من حكايات تعليم اللغة العربية للصغار- تدعى حكايات بدر الدين الخباز- أن أحدا من زبائن بدر الدين طلب منه خبزا «خارجه أصفر، وداخله أبيض، وطعمه حلو مثل السكر»… أما صورتنا الموضوعة للفرجة فذات ألوان صارخة بالطبيعة وهي «مطبوخة» على وجهين أيضا، أحدهما الشكل وثانيهما المضمون… أما الطعم فنتاج الجمع بينهما… وحلو الطعم أو مره ثمرة المسؤولية.

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

بيار لوي ريمون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية