وننتظر

ثار أخيرًا أهل البصرة، كيف لا وهم يشربون الماء الملوث ويأكلون الخبر الناشف، وقد تدهورت الأحوال في الجنوب العراقي، الذي كان ذات يوم من أغنى المناطق، إلى حد لم يعد السكوت عنه أمرًا ممكنًا؟ ثار الجنوب العراقي بسبب المعاناة والظلم والتمييز، ومن أجل إنهائها جميعًا سبق أن دفع العراقيون أثمانًا باهظة من أمنهم واستقرارهم وأرواحهم دون أن يتغير شيء، فلا معاناة خفت ولا ظلم انتهى ولا تمييز أخفى وجهه القبيح. يبقى العراق الخلاب يدور في دوائر المعاناة، حكومات خربة، وتدخلات خارجية، وأطماع ومؤامرات، حتى بلغت المعاناة أن عطش أهل الرافدين وجاع أصحاب أجمل مزارع الدنيا وأخضبها!
المثير في الموضوع هو ردة الفعل العربية تجاه ثورة البصرة، حيث انقسم الرأي، خصوصًا في الخليج، إلى قسمين واضحين، رأيٌ عنونها بثورة سنية ضد حكومة شيعية ذات مظلة إيرانية، وآخر وصفها بالثورة المتآمرة على حكومة شيعية من أطراف كارهة داعشية المنطلق.
لم تعد العقلية العربية قادرة على الخروج عن هذين المسارين، فالموضوع إما تآمر شيعي بتأييد إيراني أو تآمر سني للقضاء على الشيعة، إذ لم يعد العرب المسلمون قادرين عن التفكير خارج هذه العلبة الطائفية، ولم يعودوا متمكنين من رؤية المظالم والمعاناة، أو قادرين على تمييز أكثر مظاهر المعاناة الإنسانية وضوحًا و«بساطة» الجوع والعطش، لقد أصبح خلف كل عطشان يصرخ مؤامرة إيرانية، وخلف كل جائع يشتكي حرب سنية على الشيعة، إنها عقلية لن تفضي سوى إلى الفناء.
تشير القصة هنا إلى طريق من اثنين، فإما أن هذه العقلية على جادة الصواب، بحيث إن كل مشاكلنا بسبب تآمر الشيعة على السنة والسنة على الشيعة، فيجوع الناس ويعطشون لأنهم سنة أو يفقدون وظائفهم وبيوتهم وأمنهم لأنهم شيعة، ثم يثور هؤلاء لأنهم يودون التغلب على الشيعة أو يتظاهر أولئك لأنهم يودون القضاء على السنة، وتلك مصيبة فاحشة. أو أن معظم المؤامرات هذه لا تدور سوى في عقولنا، فلا نستطيع تفسير المعاناة إلا على أساس طائفي، ولا نكاد نرى الجوع والعطش والفقر وامتهان الكرامة وضياع الأمن والأمان إلا من منظار شيعي سني، ولا نفسر مصائبنا إلا من خلال نظرية التآمر؛ شيعة يودون بناء دولة شيعية «ليفرسنون» (نسبة لفارس) العالم العربي، أو سنة يودون القضاء على الشيعة «ليسننون» المسلمين بأكلمهم، وإن كان الوضع كذلك، وإذا كانت تلك حروب تدور في عقولنا فالمصيبة هنا أعظم. ولربما مصيبتنا الحقيقية هي أفدح من المصيبتين السابقتين، وربما مصيبتنا هي في أن حروبنا فعلاً طائفية. وهي وإن لم تكن غير طائفية ومستحقة، فلا نستطيع أن نفكر بها أو أن نقيمها سوى من خلال هذا المنظور المريض.
مما لا شك فيه أن هناك صراعًا طائفيًا قويًا في المنطقة، وأن هناك جانبًا حقيقيًا للتدخلات الإيرانية الواضحة وللمقاومة السنية البينة تجاهها، ولا يمكن إنكار الدور الإيراني في المنطقة ولا الدور الأمريكي الأوروبي في بناء مقاومة شرسة لهذا التدخل لتبقى المنطقة مشتعلة بنيران مقدسة قديمة لم تنطفئ شعلتها منذ الألف عام وتزيد، إلا أن النفخ في هذا الجانب وجعله القصة الوحيدة والمنظور المنفرد والمقياس الأساسي لكل المشاكل لا يقود إلا إلى تضخيم المأساة وإصابة أصحابها بالعمى الكامل. نحن في عالمنا العربي طائفيو التفكير حتى النخاع؛ فالجوع له عندنا مذهب والعطش له طائفة، حتى المعاناة لها مسجد والمظالم لها حسينية. الناس تعاني في العراق، في بلد هو منبع الحضارة الإنسانية الأولى، أرضه من أغنى الأراض وأهله من أكثر أهل الأرض ثقافة وإنتاجًا، فهل يجب أن تكون هناك مؤامرة ما لكي يثور أهل هذه البقعة الفريدة على أوضاع فقر ومعاناة وجوع وعطش لا تليق بهم ولا بتاريخهم ولا بإمكانيات أرضهم؟ هل يحتاج البصريون إلى نعرة طائفية تحفزهم لكي يغامروا بأرواحهم وأمنهم؟ ألا يكفي الجوع والعطش والبكاء على أطلال مصادر ماء- كانت ذات يوم من أغنى مصادر الأرض- سببًا للثورة ضد الفساد أيًا كانت طائفته وتحالفاته السياسية؟ ما هذا العمى الجماعي الذي أصاب أمتنا، فلا تستطيع أن ترى إلا من خلال سنيتها أو شيعيتها، ويا ليتها ترى شيئًا بالفعل؟ لا شيء سوى ماض بائد وأطماع ساذجة وانتصارات مقدسة لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع في يوم. ما زلنا ننتظر- شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين ويهودًا- مخلصًا ما على هذه البقعة المنكوبة من الكرة الأرضية، فنحن الوحيدون الذين لا نزال نعتقد بالحرب المقدسة ونقيس السياسة بمقاييس الأديان وننتظر بطلاً يخلصنا، خلصت الحياة وزهقت الأرواح وما زلنا ننتظر.

وننتظر

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    بدايةً اقول ان مقولة كارل ماركس ( الدين افيون الشعوب ) هي المقولة الاصدق فيما يحدث في عالمنا من حروب وافناء واذلال واحتقار لرأي الآخرين ومعتقداتهم !!!
    نعم الحرب قائمة وبسبب العطش الذي اصاب جماعة الحسين الشيعي ومنع الماء عنهم من قبل يزيد بن معاوية السني!!! ففي كربلاء قتل سبعين وبعدها بسبب التشييع والخلاف المستعر بنيران الكره والبغضاء قتل الملايين !!
    قبل وجود ايران الحالية والصفويين وقبل تماثل الشاه من دوامة الحقد , انتصروا جلادي الاستئثار والاستحواذ تارة لهؤلاء وتارةً لهؤلاء, وفي كل الحالات الغلبة كانت لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء , وكان سبب البلاوي والمعاناة من نصيب كل هؤلاء ؟!!
    ليست شحاحة الماء ولا صعوبة المعيشة هي المحرك للخلاف !! التشيع وعدم تقبل الآخر هو سبب الاندثار والدمار والضياع , انت شيعي اذاً انت كافر ؟!! انت سني اذاً انت قاتل وملحد وظالم ..وللحقيقة المؤلمة ان الاثنان في سلة الادمان على القتل وعدم التوافق بينهما متساويان والسلام

  2. يقول سلام عادل(المانيا):

    اخي رؤوف بدران-فلسطين
    اختصرت كل التعليقات في تعليقك وانتصرت للحقيقة الوحيدة وهي ان رجال الدين لو تسمح لي بالتصحيح وليس الدين هم المشكلة فالدين او المعتقد مهما كانت افكاره او مبادئه فهو اسير لمفسريه فهم من يحرك كل الامور للجيد او للاسوء

  3. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ أحمد-لندن
    عندما يمدح الاخوة اردوغان يضعونه بمصاف الصحابة والصديقين وهو حامي الاسلام ورايته وخليفة المسلمين الجديد وانت الان تبعده وتذكر تركيا دون اردوغان فمن تريدنا ان نصدق

  4. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    هناك تبسيط و تسطيح كبير من قبل بعض الأخوة حتى و إن بدا أنهم خاضوا في التفاصيل !
    .
    أما المقال الذي وجه الأنظار الى خيارين أو سببين لا ثالث لهما لأسباب الانتفاضة التي انطلقت شرارتها من البصرة ، وفق ردة الفعل العربية و الخليجيه خصوصاً كما ذكر المقال ، فكنت اتمنى على السيدة الكاتبة أن تعطينا مصادر رصينة لوجهتي النظر هذه حتى لا يكون الكلام ملقىً على عواهنه !!
    .
    لقد بلغ السيل الزبى بأهل العراق و خاصة أهل البصرة بكل طوائف العراقيين و خلفياتهم من جوع وعطش و غياب للخدمات الأساسية و انتشار البطالة و احتقار الشعب فهبت الجموع ، لكن لا شك أن العلاقة ما بين إيران و الولايات المتحدة كان لها حضورها فركبت إيران الموجة من خلال مخالبها لتحرك الأمور هناك بما هو في مصلحة السياسة الإيرانية ، فإيقاف تدفق النفط اليوم من أجل رفع سعره بالذات هو في صالح إيران و و معاكس لسياسة ترامب المعلنة.
    .
    هناك على المستوى الفكري من يحاول أن يحرف الأمور عن حقيقتها كما تفعل إيران و الولايات المتحدة أيضاً !
    .
    رفعت الأقلام و جفت الصحف.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية