■ يُطرق باب بيتنا بكثرة، ولا يُكترث بكونه وقتاً باكراً أو متأخرا، ليلا أو ظهيرة ساكنة. ويقع علي النداء لتلبيته في تلك الأوقات، كلها. أتلقى وجوه الرجال الواجمة وعيون النساء الذابلة بألفة؛ أشفق على نفسي سبَبَها. يدخل أولئك إلى الغرفة العارية، منتظرين بغصة بينما يأتي إليهم أبي. فأجلس، بعيداً، على درجات البيت الواطئة، أمدد قدمي وأدلكهما: لِم أصدقاء أبي غِضاب، دائماً وزائرات أمي باكيات!
لعل هذا ما جعل جدراننا شاحبة؛ إنهم يتركون ظلالهم ولا علاقة لدخان الموقد بذلك. كنت أشعر بهذا الطقس الجنائزي حتى حين أنفرد بالدمى؛ إذ نلعب لعبة مغسلــ(ة) الأموات! لقد اسْتُدْعِيَ أبي إلى مدرستي غير مرة؛ لأنني أجبت عن سؤال المهنة المبتذل بأني سأصير مَلَكَ موت، ورسمت حديقة مُزهرة بالتوابيت. وما استدعى قلق أمي وخوفها الفاقع أنني في أوقات الفراغ، أطرز العصافير على الأكفان المُكدسة لدينا.
لقد امتهن أبي شؤون الموتى؛ ورث ذلك عن جدي الذي توارثها عمن قبله… يمكنني القول إنني سليلة عائلة عريقة بإعداد الراحلين وتأمين مستلزماتهم. تقول أمي إنها تزوجته عن حب؛ لأن من يعتني بمن لا روح فيهم سيثمن الحياة. حسناً، ذلك مدعاة احتمالها للطرق المتكرر، والحزن المعدي. مصاحبة الموت فكرة سديدة في بيتنا؛ إنها تظل أفضل من الذوبان الذي أسلكه. الفضول لطالما شاغلني؛ لأعرف ما يجري في الغرفة الفارغة من الأثاث، وما سر أن يُجلب أحد ما محمولاً كالأطفال النيام، لا ليُحمل إلى سريره، بل ليستحم عندنا! كان يُسمح لي بشطف المكان عقب انتهائهم؛ الرائحة حلوة حتى الرجل المخبول النتن، حين جلبوه إلينا انبعث العطر نفسه! تلصصت… فأصابتني نوبات بكاء، وهلوسات موحشة، وأحلام كريهة. صليت لله طلباً للمغفرة؛ إذ هتكت أسراراً واطلعت على … لم أتصور أن الأمر … ثم ما عاد الباب الموارب يشغلني؛ الاعتياد يشبه النهر، لا يأبه بما تُساقط الريح من ورق الشجر، وما تلقيه الأيدي من الأشياء، والجثث، بل يُكمل جريانه بما عَب.
في صباح مثلج يتعسر الحراك فيه شعرت بأن ثمة طارقاً ما، راعني ذلك، لم أجد وشاحي السميك في متناولي؛ لفحت كفناً، ومضيت للطقس المألوف: أفتح الباب… أفرح بمجيئهم؛ إذ سنجلب وقوداً يخفف حدة البرد… أخفي تلك الحالة الغبية… أدلهم إلى الغرفة… يتملكهم خوف من خواء المكان والصمت الكثيف… يشردون بينما يأتي أبي؛ ليبدأ عمله بمهابة جليلة. أقعد على الدرج، أمدد قدمي، وأدلكهما لكن بدون أن أسأل عما يحدث.
في الدكة هرة بفراء كأشجار باغتها الجليد؛ ارتبكت قليلاً إذ لم تكن تحمل نائماً ما، ولم يكن في الجوار أحد. أدخلتها كما جرت العادة، تلك التي تشبه النهر. ليس لدى الهرة مواء؛ ربما بُح لفرط البكاء. كانت مأخوذة بالعصافير المطرزة على الكفن الذي وضعته على كتفي. كنا نحدق ببعضنا بغرابة على أن الغرفة قد ألفت هذه النظرات.
اعتذر أبي للطارقين، ذلك المساء: لقد التهمت القطة عصفورتي وفرت كالمجنونة تذوب الثلج بدمعها الذي بلا صوت تاركة أثار أقدامها في قلبي… كفكرة الموت.
٭ سوريا
نهى عبد الكريم حسين