من السهل القول إن عبارة «الأدب الأقلي» لا تشير فقط إلى نوع من الأدب، هو الإنتاج الهامشي لكتاب من الدرجة الثانية، بتصور جان جاك لوسركل في كتابه «عنف اللغة»، فهو – أي الأدب الأقلي – يشير إلى الظروف الثورية للأدب ككل، وإلى عدم الاستقرار والعنف في اللغة، وهو اتجاه يمكن ملاحظة سطوته الصريحة على المنتجات الأدبية الشبابية، خصوصاً في ما يتعلق بكُتاب قصيدة النثر والرواية، حيث يغلب عليها مخاطبة الذات الإلهية بلا مبالاة، بل بنبرة محقونة بالتحدي، كما تتفشى فيها المشاهد البورنوغرافية بفجاجة، والرغبة الدائمة في مجابهة الذات الاجتماعية بفردانية تفتقر إلى أبسط أدوات الحوار وابتناء النص، فكل ما يقال في هذا الإطار صادر عن ذات مصابة بوهم الإستئلاه.
ما تريد أن تقوله هذه النصوص من خلال عنفها اللغوي الصريح يمكن اختصاره في وهم الثورية، أي زلزلة قواعد التعبير، وتجاوز المحرمات الموضوعية والفنية، وخدش هالة النخبة، بمعنى أن كل ما يرد في النص يمثل الذات المنتجة له، وأن الفواصل ما بين الوعي الشخصي وتركيب النص تكاد تكون منعدمة، وهذا هو ما يحتم بالنسبة لتلك الذوات المنتجة للنصوص، أن تكون العاطفة هي وقود النص، وهو الأمر الذي يفسر رداءة معظم النصوص واهتراء سياقاتها، لأنها تنهض على الصراخ والانفعال، وكأنها تدفع بالكلمات والعبارات والأفكار للسير في تظاهرة كلامية بدل أن تتكثف في مخابر الوعي والوجدان، على اعتبار أن التفكك والارتباك من أعراض العنف اللغوي.
كل ذلك العنف الذي يغلب عليه الطابع الاجتماعي يعني ويؤدي في الآن نفسه إلى سوء فهم عميق لمفهوم ومغزى الكتابة، فمفهوم الالتزام في الكتابة لا يعني وضع المجتمع على الدوام تحت طائلة المساءلة النقدية.
وتمثُّل السخط في كل الحالات التي تعيشها الذات الكاتبة بدعوى الثورية، لأن هذه الذات معنية في المقام الأول بإنتاج خطاب جمالي وليس الاستنقاع في خطاب حجاجي، بمعنى أن الالتزام إنما يهدف إلى تأدية الوظيفة الكتابية بشكل جيد، لا الانحراف بالنص عن مراده وتحويله إلى منصة خطابية للصراخ الاجتماعي أو السياسي، أو الأيديولوجي، وهو ما يعني أن الرؤية أو الثيمة الاجتماعية حالة متفرعة عن كليانية وشمولية الكتابة، وليس العكس.
هذا لا يعني أيضاً الدعوة إلى إنتاج نصوص أخلاقية معقّمة، بل العودة بالنصوص إلى أدبيتها، وإلى سياقاتها القادرة على توليد المعاني، فالظرف الحياتي المرتبك يولّد بالضرورة لغة عنيفة، داخل السياقات الاجتماعية المعاشة، وقد ويدفع الذات الكاتبة للاستغراق في كتابة نصوص يغلب عليها العنف اللغوي، وهو أداء أدبي ركيك ناتج عن السماح لسطوة الخطاب الجمعي بالتسلُّل إلى النص، والخضوع لكثافة القاموس الاجتماعي، والاتكاء على اللغة الاستعمالية، حيث تتمثله الذات المستلبة عندما يتعلق الأمر بالكتابة، وتعلن التمرد عليه لفظياً، من خلال الإفراط في استدعاء الكلمات الفجة والبذيئة، كحالة من حالات الرفض الشكلي.
إن العنف اللغوي بهذا المعنى نتاج طبيعي لذوات لم تتشرب عادات وتقاليد الكتابة، أو ربما ليس لديها القدرة والوعي لتمثُّل تلك الأداءات، فهي ذوات سطحية انفعالية لا يوجد لديها أي مسافة بين ما تتكلم به وما تكتبه كنص، وهو أمر يتضارب مع فاعلية ووظائفية اللغة في الحقلين، أن ينبثق العنف الكلامي من إحساس الذات بالتحلُّل الاجتماعي وانهيار منظومة القيم وتبخر الأحلام والآمال وانسداد أفق الخلاص الذاتي، فيما يتأسس العنف اللغوي داخل النص بناء على موقف ثوري من الحياة، بحيث يكون لكل مفردة أو عبارة رصيدها من المواقف والآراء، وهذا هو ما يهب للنص قدرته البلاغية، وسطوته التعبيرية، واستقراره اللغوي الذي يعمل بمنأى عن العنف اللغوي المجاني.
النص ليس مجرد مجموعة من الجمل المترادفة، كما تحاول النصوص الشبابية الغاضبة إثبات ذلك المنحى، إنما هو وحدة لغوية تتسم بالترابط والاتساق والقدرة على ضخ المعاني، وهذا هو ما جعل ميشيل فوكو يعتبره بمثابة المظهر الشكلي للخطاب، وهو بموجب هذا المنظور اللساني نظام عبر لغوي أيضاً، يعكس قدرة الكاتب على توزيع نظام اللغة، والتحكم في مفاصل النص، وذلك هو ما يحتم السيطرة على كل عناصره ومكوناته كمفردات وكأفكار وكإيقاع أيضاً، لأن الذات الانفعالية تكون أقرب إلى الفعل الكلامي منها إلى البناء النصّي.
عندما يزدحم النص بالملفوظات الساخطة والعبارات العنيفة يفقد الكثير من أدبيته ويتحول إلى نص من الدرجة الثانية، لأنه سينحى بالضرورة عن مورفولوجيته واستعاريته باتجاه الإخبارية والتقريرية، وسيتخفف من الوخزات الجمالية بظلالها الإشارية والإيحائية، فهو نص معركة سجالية تضع «الأنا» فوق كل اعتبار فني أو موضوعي، بما في ذلك الذات الإلهية، لأنه لا يقوم على التساؤل، وغايته المركزية تتمثل في قهر الآخر وإعلاء الوعي والصوت الشخصي كقيمة مركزية، وهذا هو مصدر العنف اللغوي، أي الإحساس الطاغي بذلك الاستئلاه المعلن عنه على مستوى الأداء الفني وفحوى المضامين.
لكل مرحلة فصيل ثوري على مستوى الكتابة يُصطلح عليه بجيل الغضب، حيث تكون لهذا الجيل مواصفات إبداعية هي التي تشكل شخصيته وهويته، وكل ذلك يمكن اشتقاقه أو التماس مع ملامحه من خلال مرآة اللغة، أي القاموس العنفي الذي يتوزع في نصوص الجيل ويتطور بتطور الجماعات وما يتداعى عنها من ارتدادات، كما كانت تلك الفصائل تتحرك على هامش المشهد وتنتج ما يُعرف بأدب الهامش، إلى أن تموت تلك الموجة أو
يلتحق بعض رموزها بالمركز لتتحول إلى نخبة جديدة، إلا أن الملاحظ اليوم، وكنتيجة طبيعية لمجموعة من الطفرات الاجتماعية والتقنية، أن الهامش يتسع أكثر بدون قدرة أو رغبة على بلورة مفهوم مقنع لفكرة التمرد، وإنتاج ذلك النص الثوري المنبعث بالضرورة من ذوات ثورية.
صحيح أن الروائي هو بمثابة الخالق بالنسبة لشخصياته، كما يقول جورج لوكاتش، وأن من حق الجيل الجديد استشعار تلك القوة والمكانة داخل نصوصهم، ولكن ليس بتلك الهجائيات العنيفة. ومن الطبيعي أن يكون لهذا الاتساع الأفقي المتسارع ضريبته، حيث يستظهر أهم معالمه في الهوس الشبابي بالكتابة والتأليف، واستعراض أقصى درجات الفردانية، عبر نشاط لغوي فائض، وسوء ممارسات أدبية على مستوى الشعر والسرد، نتيجة التصدي لمهمة إنتاج النصوص الأدبية بدون أي خزين ثقافي، بل بأفكار تلفيقية جاهزة وقاموس من المفردات المستنقعة في العنف، وبذات نيئة مستعدة للقتال بالنص وداخله.
كاتب سعودي
محمد العباس
أخي محمد جزيل الشكر لك على مقالاتك اللامسة لكثير من القضايا الأدبية الملفتة . وأعتقد كقارئ وككاتب أن المبدعين الشباب في السرد والشعر يحتاجون إلى نقد توجيهي موضوعي يتخذونه بوصلة نحو الجودة والرصانة في الكتابة مما سيعمل حتما على إنضاج تجاربهم ، وبما أنهم كتاب المستقبل فإنهم يحتاجون إلى مرافقة الكبار ليمتحوا من تجاربهم تطويرا لإمكاناتهم الإبداعية . والمعضلة الكبرى أن الكثيرين يكتبون أكثر ولا يقرأون مما سيسقط كتاباتهم ونهجهم الإبداعي في مستنقع الرداءة والضحالة. فالناقد الصارم والموضوعي الغائب في المشهد الإبداعي والأدبي هو من تقع عليه مسؤولية التنبيه والتوجيه والمدح والتوبيخ إرساءً لقواعد إبداعية مشرفة لنا ولإصحابها.