ياشا مونك وقصة الزواج المتعثر بين الديمقراطية والليبرالية

حجم الخط
0

مُسلّمتان رائجتان يساهم ياشا مونك، الأستاذ الشاب في جامعة هارفرد (مواليد 1982)، بإبراز تصدّعهما.
الأولى تتعلّق بالنظرة المتفائلة التي تعتبر أنّ الديمقراطية إذا اشتدّ عودها في مجتمع ما تتحوّل إلى طريق في اتجاه واحد، لا رجعة فيه إلى الخلف. يبيّن الباحث الألماني ـ الأمريكي في كتابه الصادر هذا العام «الشعب في مواجهة الديموقراطية. لماذا حريتنا بخطر وكيف السبيل لإنقاذها؟» أنّ الأمور ليست أبداً في واقع الحال اليوم بهذه الحتمية، ويمكن أن يحدث الأمر باتجاهين، تدهور حال المؤسسات المحايدة وحقوق الأفراد وحقوق الأقليات الدينية والإثنية، أو ما يصطلح عليه مونك «الديمقراطية غير الليبرالية» (بل اللا ـ ليبرالية)، أو الإبقاء على الحقوق الفردية وقوة المؤسسات إنما على حساب الإرادة الشعبية، أو ما يطلق عليه توصيف «الليبرالية غير الديمقراطية».
فالمسلّمة الثانية التي يهمّ مونك بكشف تصدّعها تتعلّق بالقران بين الديموقراطية والليبرالية. هو يدرك أنّ المفكرين والباحثين غالبا ما ميّزوا بين المفهومين، فالديمقراطية الأثينية قديماً لم تكن ليبرالية البتة، طالما كان يمكن لأكثرية من يحقّ لهم المشاركة فيها نفي الآخرين، واعدام المنتقدين، وفرض الرقابة على الخطابات والأعمال الموسيقية، مثلما أنّ بروسيا القرن الثامن عشر كانت ملكية مطلقة وكياناً ينتظم حول التراتبية العسكرية الصارمة، ومع ذلك كان الحكومة البروسية ليبرالية نسبياً تجاه حقوق الأفراد وحرية التعبير. لكنه ينتقد في المقابل تزايد الميل إلى التسليم بأنّه عندما يحدث الإقتران بين الديمقراطية والليبرالية، بين الإرادة الشعبية والحقوق الفردية، يحصل مزيج متجانس له قدر من التماسك والصلابة والحيوية، بحيث لا افتراق من بعده.
يلتقط ياشا مونك في التحولات الجارية على قدم وساق في عالم اليوم منحيين متباينين. اتجاه تشكيكي بسياسيي الاستبلشمنت يطعن بفكرة المؤسسات المحايدة بين الفرقاء السياسيين بحد ذاتها، ويبلغ ذروته ضمن فضاء الاتحاد الأوروبي في حالة المجر في ظلّ حكم فيكتور أوبان، الذي يعمل وحزبه منذ سنوات عديدة على إغراق الإدارات الحكومية بالمحازبين وتقليص استقلالية القضاء واطلاق العنان لسياسات معادية للأجانب. واتجاه في المقابل يضرب عرض الحائط بالإرادة الشعبية، ويشدّد على قوامية النخب التكنوقراطية، ويعطي مونك كمثال عليها أسلوب تعاطي مؤسسات الإتحاد الأوروبي مع اليونان وقت أزمتها المالية، على الرغم من أنه يدرج حزب «سيريزا» في عداد الحركات الشعبوية (الديموقراطية اللا ليبرالية) ولا يميّز كثيراً بين شعبويي اليمين وشعبويي اليسار. المطالعة التي يقدّمها مونك والمتعلّق بالتحدي الذي تواجهه استقلالية المؤسسات القضائية في عالم اليوم تشمل حتى احدى أعرق المؤسسات، القضاء البريطاني، فالقضاة الذين طلبوا من تيريزا ماي الحصول على موافقة البرلمان للانفصال عن أوروبا جرى التعرّض لهم كـ»أعداء للشعب».
ينتمي كتاب مونك إلى مجموعة من الإصدارات المهمة في الآونة الأخيرة تغلب عليها نزعة متشائمة بخصوص أوضاع الديمقراطية على الصعيد العالمي، لكن أيضاً في الغرب نفسه. امتياز كتابه بين هذه الإصدارات المتفاوتة في الأهمية، أنه لا يحصر الإشكالية في «تراجع الديمقراطية»، بل يمحورها حول حصول الشقاق الكبير في الوقت الحالي، بين الديمقراطية وبين الليبرالية، بما يترتب على ذلك الإقرار بحيوية ديمقراطية تعبر عنها هذه الظواهر الشعبوية الصاعدة، وبالتوازي، بقيم ليبرالية أساسية تعبّر عنها النخب التكنوقراطية على استخفاف الأخيرة بالإرادات الشعبية. ثمّة الكثير مما يمكن تسجيله على هذه النظرة «التثنوية» لأزمة التوسع الديمقراطي على الصعيد العالمي اليوم، إلا أنّ زاوية النظر التي يطورها ياشا مونك في كتابه تتمكّن مع هذا من تسجيل مجموعة من المفارقات الأساسية.
من هذه المفارقات، ما يساهم في تبديد النظرة المثالية للديمقراطية من الأساس. يذكرنا مونك بأنّ أثينا الديمقراطية في العالم القديم كانت أقل انفتاحاً بكثير على الغرباء من روما التي أقرّت في فترتها الجمهورية أن العبيد المحرّرين يمكنهم الحصول على المواطنية الرومانية، وظلّ يتطوّر ميلها المساواتي الاستيعابي على هذا الصعيد حتى وصل الذروة في «مرسوم كراكلا» عام 212 الذي وطّد المساواة في الجنسية الرومانية للأحرار في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. هناك اتجاه إقصائي في الديموقراطية، واتجاه استيعابي في الأوتوقراطية، ولا ينحصر هذا في نموذجي العصر المتوسطي القديم، أثينا وروما. الحركات التحررية لشعوب أوروبا كانت في وقت واحد حركات من أجل الديمقراطية وحركات من أجل الصفاء الإثني والتجانس اللغوي. رواد تحرر التشيك والسلوفاك والهنغار من امبراطورية آل هابسبورغ كانوا في وقت واحد رواد التطور الديمقراطي لهذه الأمم، ورواد التجانس العرقي الإستبعادي للأقليات منها. نفس الشيء بالنسبة إلى القوميين الإيطاليين والألمان. في المقابل، الفاشية في ايطاليا والنازية في المانيا انطلقتا من المقلب الآخر: النهوض لنجدة أبناء الجلدة الذين يضطهدون على يد الأمم الأخرى. مثلاً، في حالة المانيا النازية، التحرّك من أجل نجدة ألمان السوديت، الذين يعانون الأمرين على يد التشيك، وصولاً إلى ضم تشيكوسلوفاكيا نفسها. يتابع مونك هنا أنّه ليس مصادفة أبداً أنّ الديمقراطية فشلت في المانيا وايطاليا في فترة لم يتمتع فيها البلدان بحظوظ وافرة من التجانس العرقي، في حين أنّه بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، وبمعية الفاشية والنازية إذاً، تأمن هذا التجانس بشكل واسع، وصارت أمور الديمقراطية في هذين البلدين أكثر يسراً! يذكرنا مونك هنا بكتابه السابق، الأشبه إلى السيرة الذاتية «غريب في بلدي: يهودي في ألمانيا الحديثة».
الديمقراطيات في أوروبا لم تظهر مستقرّة إلا بعد أن تمكّنت القوميات من استئصال التعددية الإثنية الإمبراطورية السابقة. من هذه الخلفية ينظر مونك إلى إشكالية المهاجرين في المجتمعات الأوروبية اليوم، فهي إشكالية تيقظ هذا الدافع الديمقراطي الإقصائي «بداعي التجانس» الموجود في الديمقراطية الأوروبية منذ «ربيع قومياتها» في القرن التاسع عشر. والحركات الشعبوية تنهض على هذا الأساس ليس لأنها تتكلم باسم «الشعب» بل لأنها تسعى إلى رسم حدود بين «الشعب الحقيقي» وبين «الشعب غير الحقيقي»، الذي يشمل بهذا المعنى النخب التكنوقراطية والبيروقراطية المتغطرسة كما الأقليات الدينية والإثنية والمهاجرين. يلاحظ مونك بشكل حذق هنا، أنّ التصويت الأعلى لليمين المتطرف الفرنسي يحصل في الدوائر التي تضم عدداً قليلاً من المهاجرين، وكذلك الحال بالنسبة إلى المناطق الريفية التي صوتت لدونالد ترامب ونسبة المهاجرين فيها متدنية للغاية، كما أن الحركات الشعبوية تكسب الجولات في أوروبا الوسطى والشرقية أكثر فأكثر حيث تكون نسبة المهاجرين متدنية جداً، لا بل معدومة. الذين يعيشون في مناطق تستقبل نسبة قوية من المهاجرين يميلون في واقع الحال إلى التصرف بأشكال عملانية أكثر مع فكرة أن مجتمعهم لم يعد «أحادياً» من الناحية الإثنية أو اللغوية، في حين أنّ التوجّس الديموغرافي يبلغ ذروته حيث المشكلة الديموغرافية المتصلة بقدوم المهاجرين غير مطروحة عملياً بعد، في هنغاريا أو بولونيا أو استونيا، بل في هذه البلدان بالذات يوظّف الشعبويين الرعب المستقبلي من أن يصير المهاجرون أكثرية في أجيال قليلة، وهم لم يأتوا بعد.
كل هذا يغذيه نوع محموم من التوجس الاقتصادي أيضاً. بعد عشرات القرون قضتها البشرية تنمو اقتصادياً بشكل بطيء، دخلت طور النمو السريع الذي يبدّل طرائق عيش الناس بشكل جذري، مع الثورة الصناعية، وترافق هذا مع تزايد اللامساواة بشكل كبير، ثم تبدّلت الحال في القرن العشرين شيئاً فشيئاً، فتواصل النمو الاقتصادي مع ميل نسبي تصاعدي لتخفيف وطأة اللامساواة، بلغ ذروته في الستينيات. صار يكتفي أغنى واحد بالمئة من الفرنسيين مثلاً بأقل من عشرة بالمئة من المداخيل. ما حصل في العقود الأخيرة هو في المقابل تباطؤ في النمو الاقتصادي، وعودة إلى مستويات اللامساواة التي كانت موجودة في الثلاثينيات من القرن الماضي. الشباب الذين نشأ على الوعد أن العمل الدؤوب كفيل بتحسين نوعي لأوضاعه صار يجد نفسه بالكاد يحصل مستوى في العيش حققه الجيل السابق بسبل أكثر ضماناً وسهولة. هنا أيضاً يحذّر مونك من القراءة التبسيطية التي تعتبر أنّ الفئات الأكثر فقراً هي التي تعطي أصواتها لليمين الشعبوي. لا، ليس بالضرورة الفئات الأكثر تضرّراً اليوم، بل هي الفئات الأكثر توجسّاً على غدها هي التي تسلك هذا السبيل. الذين انتخبوا ترامب ليسوا الأكثر فقراً، بل الأكثر شعوراً بأن المستقبل كفيل بالاستغناء عنهم. هم الذين ما زالوا في منازلهم، لكنهم رأوا كيف طرد جيرانهم حين لم يعود باستطاعتهم تسديد الأقساط للمصارف.

٭ كاتب لبناني

ياشا مونك وقصة الزواج المتعثر بين الديمقراطية والليبرالية

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية