المغرب – سفيان البالي: مرت الانتخابات البرلمانية المغربية بزخمها ونقاشاتها ومظاهرها التي بلغت حد الغرابة في بعض الأحيان، وخلص المغاربة إلى تكريس مكونات المشهد السياسي نفسه لخمس سنوات أخرى بكل ديموقراطية، بل بديموقراطية أكثر مما كان متوقعا. والآن فقط حق لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أن يقول: «المغاربة يريدون حزب العدالة والتنمية»، غير أن «المغاربة يريدون» هنا بمعنى المريد، لا بمعنى الإرادة. فقد أفصحت نتائج الانتخابات الأخيرة عن توغل التيار الإسلامي في صلب المجتمع المغربي، مستعينا بأدواته التقليدية: أجنحة دعوية، خطابات شعبوية، ولعب لدور المحارَب والمضطهد الذي يحيل مباشرة (في التصور الشعبي) على أن الإسلام هو المحارَب والمضطهد، إضافة إلى سلاح جديد وخطير استعمل لأول مرة: دموع رئيس الحكومة، فكان «البكاء سلاحه السري والذري» على حد قول شاعرنا العربي محمود درويش.
فالواقع السياسي الذي أفرزته الانتخابات إجابة واضحة عن أسئلة عدة، أهمها غياب قوة صلبة تنافس العدالة والتنمية في الساحة، وأكثر ما أقصده هنا غياب اليسار.
فتبعاً للقاعدة التي تقول بأن «الطبيعة تخشى الفراغ»، فإن الإسلاميين ليسوا إلا امتلاء لفراغ أحدثه انسحاب اليسار من المشهد السياسي، وخفوت أنواره التي كانت مبعث الأمل عند المغاربة منذ فجر الاستقلال. حيث نراه الآن، رغم محاولات الانبعاث والصحوة من جديد، متخبطا بين لغة النخبة المتعالية، وقيادة فاشلة على تسيير شؤون حزبها وتدبير أهم محطاته، كما لو كانت هذه هي لعنة أي يسار عربي، وربما عالمي الآن مع الصعود اليميني في كل مكان بالعالم.
اليسار في المغرب ذابل مأزوم، عالق في انقساماته، جانب منه منتحر لازال ينادي باشتراكية على منهاج لينين، والآخر على منهاج رئيس الحكومة.
اليسار في بلادنا مسروق من طرف قيادات براغماتية تتعامل مع أحزابها بمنطق المحطات لا بمنطق المشروع، ولا تحسن الاستماع إلى قواعدها. وفي أحسن حالاته، يسار ذو لغة نخبوية وشعارات تطفو في الهواء خارج سياقها التاريخي والمكاني، هذا ما يجعله في أزمة قاعدة.
اليسار الذي كان القوة الحداثية والديموقراطية في المشهد السياسي المغربي، صار آلة لتفريخ المحافظين بشكل غير مباشر، فما هفواته ودفاعه عن تلك الهفوات وغيابه، إلا مد في شرعية الإسلاميين في واقعٍ يجعل الكتلة الناخبة، التي لا تتعدى ستة ملايين مغربي، مخيرة بين قطبين أحلاهما سم: طوفان التأسلم أم طوفان التحكم.
أكثر ما يغيب عن فكر اليسار المغربي هو الاحتكام الجيد للواقع، فالواقع يريد يسارا موحد الرؤية، يحتك مباشرة في الشارع، بخطاب مفهوم يصل كل المغاربة إلى استيعابه، متفاديا التصادم المباشر بمقدساتهم. الواقع يريد يسارًا أكثر واقعية، يقدم إجابات مادية في الواقع المادي، فاليسار في نهاية المطاف يسار الجماهير لا يسار النخب، وهو يتحمل أكثر من غيره واقع انحدار الوعي المجتمعي إلى الحضيض.
الحل في هذا الوقت بالذات، وبعد انقضاء الانتخابات، هو ترك نتائجها جانبا والخوض في إصلاح الذات، ونقدها قبل انتقاد الموضوع، وفهم مواطن الخلل وإصلاحها، وتغيير من يجثمون على أنفاس أحزابهم وتولية دماء جديدة زمام الأمور التنظيمية، وتكوين وعي أكثر حول ما يتطلبه المجتمع المغربي، ليدخلوا لاحقا معركة العودة إلى مكانهم المعهود في المقاهي، في المعامل، الأحياء الهامشية، الجامعات، في كل شبر من هذا الوطن الحبيب.
ولمن سرقوا من الشعب يسارهم أقول: «يا أخي رُد اليسار ممن سرقه» لأننا كشعب وكوطن، وكإنسان في أمسّ الحاجة إليه.