لا أدري إن ساهمت برامجنا المدرسية بشكل مباشر وكبير في جعل الشعر يتيما اليوم بين الفنون، لا يُقبل عليه القارئ إلاّ القلة من النخبة، ويعزف عنه كثيرون من الفئات القارئة، رغم علاقتهم الجيدة بالكتاب؟ أم أنّ هناك أسبابا أخرى عميقة ضربت الشّعر في عصبه الحساس فتركته مثل مريض ينازع الموت ويحلم بالحياة؟
على مدى سنوات الدراسة حفظنا الكثير من الشعر الجاهلي ذي المفردات الصعبة والغريبة على لغتنا اليوم. وجعلت تلك الألفاظ الشّعر مادة صعبة الحفظ والاستيعاب، وبعضها كان مبعثا للضحك لشدة غرابته.
تمسكنا بمناهجنا المدرسية القديمة، جعل صورة الشعر في أذهان أجيال بأكملها منذ مطلع القرن الماضي إلى يومنا هذا، صورة مغايرة لعصرنا، ومغايرة بالتالي لتطورات النص الشعري، وما آل إليه اليوم.
ومنذ مرحلة «قفا نبك..» إلى مرحلة: «حاصر حصارك..» تأرجح الشعر بين التألق والانحطاط، وتدرّجت اللغة من المفردات الوعرة إلى السهلة فالأسهل في نسيجها، ومع هذا ظلّ الشعر في تراجع عن جمهور القرّاء حتى بلغ اليوم مرحلة يتم حقيقية.
يقول قرّاء الرّواية أنها تجذبهم أكثر، والسرّ في ذلك عشق الإنسان لاكتشاف الألغاز وحكايات الآخرين، وهذان أهم عنصرين في بناء رواية جيدة، أمّا الشعر فهو كتلة من المشاعر المترجمة بشكل لغوي، أو أنه اللّغة في حد ذاتها بفلقتي قلب.
ومع هذا، ومع كل ذلك الكمّ من الجماليات الروحية والحسية في الشعر يعمد القارئ إلى تحاشيه. في المكتبات يذهب صوب رفوف الرواية، بحثا عن أسماء روائيين معينين أو عناوين تشده، يقتني الرواية رغم حجمها الأكبر، والوقت الذي تحتاجه لقراءتها ويترك الشعر في مكانه.
بعضهم يتصفح بعض المجموعات الشعرية من باب الفضول، ثم ينصرف.
يقول بعض الدارسين، إن قارئ الشعر تكمـــن معضلته في التّلقّي فهو يتلقف مشاعر الشاعـــر جاهزة، وهذا يعني أنّه يتلقى ما لا يحتاجه. وهنا يُطرح السؤال مجددا، هل نجاح بعض الشعراء القلّة عندنا عائد لنوع الموضوعات التي كتبوا فيها؟ نجاح درويش أيعود لحمله قضيته الفلسطينية مثلا؟ نجاح نزار قباني أيعود إلى اتخاذ شعره قاموسا لمخاطبة النساء؟ يقال إنه صحح تلك الإعاقة التعبيرية التي عانت منها أجيال بأكملها بسبب القمع الاجتماعي وموروثنا الثقافي المشوه تجاه كل ما يتعلق بالمرأة. شعراء آخرون تجاوزوا مثل نزار ودرويش حدود بلادهم وتعدت شهرتهم أفق البلدان التي انجبتهم، وآخرون ظلوا حبيسي المحلية وفئة أخرى عاشت وماتت في الظل.
تصنيف الشعراء يشبه كل شيء في الحياة، هناك ما هو صف أول وهناك صف ثان إلى أن نصل إلى صفوف لا تُرى ليس لأنها سيئة وأبعدت، بل لأنها خارج مساحة النّظر لا غير، ونحن للأسف بشر وقدرة نظرنا لا تبلغ الأقاصي ولا الأعماق.
الآن من يقول إن الشعر مات أو مريض؟ منذ العصر الجاهلي إن اعتقدنا أنه أقدم عصر للشعر العربي ظل الشعر موجودا، ولم تمر حقبة بدون شعراء.
ولو جُمع كل الشعر الذي قيل منذ ذلك الوقت إلى اليوم لغطى الكرة الأرضية ببرها وبحارها بطبقات سميكة بحجم الجبال وما بان منها شبر. ولعلّه مجموع ومتوفر ولكنّنا لم نفقه بعد أهميته.
جان بول سارتر قال: «النثر يستخدم الكلمات، أمّا الشعر فيخدمها» وهذه حكمة من الحكم النّادرة التي تختصر الشعر، ولكننا لم نتوقف عندها كما يجب، ولم نتمعّن في معانيها الكبيرة. فإن كان الشّعر يخدم الكلمات فلماذا استنفد نفسه؟ أم أنّنا تعاملنا معه بلؤم لا يناسب أناقته وفخامته؟
قديما كان الشعر ابن عصره، كان يُلقَى في حينه، ويعتبر ذلك حدثا مهما، فيرفع أشخاصا ويسحق آخرين وقلّة من الشعراء سُحِقوا بشعرهم حين تطاولوا على غيرهم… بالمختصر كان حراك الشعر أشبه بحركة مياه نبع لا يتوقف عن العطاء. ذلك العصر الذي أرّخنا له على أنّه الأجمل قدمناه لأبنائنا، ولم نقدم لهم ما أنتجه شعراء عصرنا.
تتغيّر أغلفة الكتب وأشكالها وتظل كتب اللغة العربية متوغلة في القدم بنصوصها ومحتوياتها.
يركض الزمن بنا إلى عصر خرافي يشبه أفلام الخيال التي كنا نشاهدها في السبعينيات ونصوصنا لا تزال تحكي عن الليل والخيل والبيداء، وبريق السيوف وثغر عبلة المتبسّم.
عالقون في الماضي بعروبتنا ولغتنا وشعرنا وأدبنا ومخيلتنا.
كل شيء يتغير…
برامج التدريس العلمية، انفتاحنا على اللغة الإنكليزية، الدراما التلفزيونية، السينما، وسائل التواصل الاجتماعي، وسائل الإعلام، أثوابنا، أكلنا، كل ما حولنا يتغير، وحتى نحن نتغير يوميا إلا هذه النصوص التي تلقم لأبنائنا من العصر الجاهلي.. فهل يمكن لأجيال بأكملها عرفت الشعر بصورته القديمة هذه أن تتقبل فجأة نصا مختلفا يشبه إلى حد بعيد كلامنا العادي؟
من وجهة نظري الشعر اليوم مثل البترول يجب التنقيب عميقا لبلوغ معناه، أما شعر الحقبات الماضية فأشبه بالحدائق والجنائن والأشياء الجميلة التي تمر أمام أعيننا. وما كان الأمر صعبا على معاصريها لفهم ما وجدناه نحن معقدا وعصيّ الفهم، لأن المعضلة بالنسبة لنا تكمن في مفردات لم نعد نستعملها، ولم تعد موجودة سوى في القصائد القديمة. هل يمكن للقصيدة أن تتحوّل إلى تابوت يحفظ كلمات ميتة؟ ربما نعم، وربما لا، لكن هل يمكن اعتبار حبة الفاكهة ميتة؟ إنها تتنفس وهذا يعني أنّها حية ومع هذا هي لا تفعل شيئا آخر. القصيدة أيضا تتنفس، وتجعلنا نشتهيها مثل حبة الفاكهة، لكن إن كانت هذه الفاكهة مصفوفة في صناديق ومعروضة للبيع، فالقاعدة تقول إن «الزبون ملك» وهو الذي يفرض قانون الربح والخسارة.
بالنسبة للشعر «الزبون» هو المتلقي ولهذا هو الملك. ولكن بالنسبة للشعر يصبح الشاعر كائنا انتحاريا إن دخل نفق الكتابة من أجل أن يرضي القارئ. وبعضهم دخل للأسف، وأنهك الشعر بالتصنع. أعتقد أن عملية إنقاذ الشعر وإعادته للواجهة هي إدخاله من جديد للمدارس، لكن بحلّته الجديدة. يستحيل أن نتفرّج عليه ينطفئ ببطء مثل قنديل نفد زيته. نريد هذا الشعر الذي يخدم اللغة، لا الشعر الذي يترنّح بأثقال لغة تعيش غريبة بيننا وبين مفرداتنا الجديدة. يمكننا دوما أن نلقي السلام على قاموسنا القديم والتغني بمحتواه، بدون قطيعة معه. يمكننا نسج شباك جميلة من الخيوط كلها لنحصل على أنسجة جديدة، تماما مثل صناعة الموضة والجمال التي لم تتوقف ذات يوم عند عتبة صرعة معينة، ولا عند حدود عصر بحد ذاته. لقد تداخلت الأزمنة في ما ارتدينا دائما وما تزينا به وما استعملناه وكل تلك إبداعات بشرية لجعل وجه الحياة غير ممل، وجعلها أسهل وألذ. والشعر في كل هذا شعلة النار التي يجب ألا تنطفئ، والوقود الذي يغذي أدمغتنا لتبقى يقظة ومبدعة.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
هل نجد اليوم من يقول:
“ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق تغرك المتبسم
لا … بروين… ولكن عزاؤنا أن نجد كاتبة راقية تكتب نثراً كأنه من روائع عنترة بن شداد
أحييك سيدي على التعليق. أنت انسان راق ومتحضر ومتذوق للادب والقيم
كأنك لمست الجرح سيدتي . لكننا بحاجة لأصوات أكثر خشونة من صوتك لتسمع
كل هذه النعومة في التحليل تجعلني أدمن قراءتك سيدتي
الرواية مدينة للشعر فهى قد استعارت جوهرين من جواهره التكثيف والتخييل ، والشعر مكبل بأغلال وأصفاد عدة منها طريقة تدريس اللغة العربية التى يجب أن تدرس كثقافة وبصيرة وفعل وعى قبل ان تكون تردادا لمحفوظات ثم طرح الشعر الحداثى المغرق فى الإبهام على أنه هو الشعر