تخطى عدد الزوار اليهود لكنيس «الغريبة» في جزيرة جربة التونسية هذا العام أعداد الزوار في السنوات السابقة، في حركة تعكس حنين أولئك للعودة إلى موطنهم الأصلي، الذي غادروه في موجات متلاحقة، على مدى القرن الماضي. ويُقدر عدد اليهود في تونس قبل نيلها الاستقلال في 1956، بنحو مئة وخمسة آلاف، لم يبق منهم اليوم سوى 1200 شخص، غالبيتهم يعيشون في جزيرة جربة، حيث يوجد أقدم كنيس يهودي في إفريقيا. ولم يحفز قيام دولة إسرائيل في 1948 يهود تونس، الذين كانوا مندمجين في المجتمع، على الهجرة إلى فلسطين، رغم فتح فرع للوكالة اليهودية، وإصدار صحف للتبشير بمشروع إقامة وطن قومي لليهود.
ويعمل يهود جربة أساسا في التجارة والمصوغات، وهم يرتدون لباسا محليا لا يُميِزُهم عن المسلمين. ويُعتبر يهود الجزيرة جزءا من اليهود «التوانسة»، الذين استوطنوا البلد منذ ألفي عام. وهم يختلفون تماما عن اليهود المهاجرين حديثا إلى تونس في القرنين السابع عشر والتاسع عشر، آتين من مدينة ليفورنو الإيطالية، بعدما طُردوا قبل ذلك من الأندلس مع المسلمين، في موجة التهجير الجماعية في 1611. ويُطلق التونسيون على هؤلاء اليهود الأوروبيين اسم «الغرانة» (بتسكين الغين) أو الغرناطيين، نسبة إلى مدينة غرناطة الأندلسية.
شرخٌ اجتماعي
باعد شرخٌ اجتماعي واقتصادي وثقافي عميقٌ بين اليهود «التوانسة» و»الغرانة»، فاليهود الفقراء كانوا يشتغلون في أعمال شاقة ويعيشون في الحارة اليهودية المزدحمة بالسكان، في وسط مدينة تونس. أما «الغرانة» الأوروبيون فكانوا يحملون الجنسية الإيطالية ويتمتعون بالحماية، بموجب معاهدات سابقة توصلت لها الدول الأوروبية مع باي تونس (الوالي العثماني الذي كان بمثابة ملك). واختار «الغرانة»، وغالبيتهم من التجار والمحامين والوسطاء والمضاربين، السكن في المدينة الأوروبية خارج الحارة، وأنشأوا معابد ومدارس خاصة بهم، بل كانوا يتعاطون أيضا مع محلات خاصة بهم لبيع اللحم «كشير» (حلال). حتى المقبرة التي يدفنون فيها موتاهم، كانت مقبرة منفصلة عن مقبرة «التوانسة». ومن خلال قراءة الخط البياني لعمليات التجنيس، بعدما عرضت فرنسا على يهود تونس الحصول على الجنسية الفرنسية، مقابل زيادة في الرواتب تعادل ثُلُث الراتب، يدُلُ ذاك الخط البياني على أن طالبي الجنسية الفرنسية من «التوانسة» لم يتجاوز خمسين طلبا فقط طيلة عشر سنوات.
في المقابل، أقبل «الغرانة» وغالبيتهم من المحامين والأطباء ورجال الأعمال، على طلب الجنسية الفرنسية. وانتهى المآل بغالبيتهم إلى الإقامة في باريس، إذ أخفق كثير من الذين هاجروا إلى فلسطين في التكيف مع وضعهم الجديد، فقفلوا عائدين إلى حضن فرنسا. وتعكس كتابات الكثير منهم التمزق الثقافي الذي يُكابدونه، والقلق الوجودي الذي يعيشون فيه، لكونهم ليسوا من أصلاء الفرنسيين، ولا هم عربٌ مندمجون في المجتمع المحلي. وبقدر ما كان عدد اليهود التونسيين الذين هاجروا إلى فلسطين ضئيلا قبل تأسيس الدولة العبرية، رغم حملات الدعاية والترغيب والترهيب، فإن منسوب التدفُقُ تكثف في أربع مناسبات أساسية هي استقلال تونس 1956، إذ نص دستور الجمهورية اليافعة على أن «تونس دولة مستقلة دينها الاسلام ولغتها العربية»، ومعركة إجلاء القواعد العسكرية الفرنسية من مدينة بنزرت (شمال)، التي استعادها التونسيون من بقايا سلطات الاحتلال 1962. وقد هاجر منذ سنة الاستقلال إلى معركة الجلاء 70% من اليهود إلى فرنسا وفلسطين المحتلة. أما المحطة الثالثة فهي حرب 1967 العربية الاسرائيلية، التي أدت إلى احتقان شديد في تونس، اندلعت معه مظاهرات أحرق المحتجون خلالها المركز الثقافي الأمريكي ومحلات التجار اليهود ونهبوا محتوياتها. وكانت الموجة الأخيرة هي تلك التي أعقبت حرب أكتوبر 1973. لكن كثيرا من يهود تونس لم يُهاجروا إلى فلسطين، وإنما اعتمدوا على علاقات القربى لترتيب الاقامة في بلدان أوروبية، في مقدمها فرنسا، وحتى في الولايات المتحدة.
وتقول الباحثة ألفة بن عاشور في رسالة دكتوراه عن «هجرة يهود تونس بين 1943 و1967» إن سلطات الاحتلال الفرنسية رفضت في البدء الترخيص للمنظمات الصهيونية بالعمل في تونس، واقتصرت على غض الطرف عن نشاطها الدعائي، قبل أن تقرر التعاطي مع منظمة رسمية هي الوكالة اليهودية العالمية، التي فتحت مكتبا في تونس لتنشيط الهجرة إلى فلسطين. مع ذلك كان اليهود يُعاملون بوصفهم مواطنين مُساوين للمسلمين، حتى أن الباي أمين (آخر بايات تونس قبل الانتقال إلى النظام الجمهوري) قرر أن يكون «يوم الغفران» اليهودي يوم إجازة رسمية في البلد.
وبعد إحراز الاستقلال تخوف اليهود من تعريب التعليم، غير أن الدولة الوطنية تعاطت معهم بانفتاح واحتواء فعينت ألبير بسيس وزيرا للتخطيط العمراني في حكومة طاهر بن عمار، التي قادت مفاوضات الاستقلال، ثم حل محله أندري باروش في الحكومة التي ترأسها حبيب بورقيبة. كما حاز نائب يهودي على عضوية الجمعية التأسيسية (1956- 1959) المؤلفة من 99 عضوا. ورأى مؤرخون كُثرٌ أن أعمال العنف التي رافقت ردود الفعل الشعبية على العدوان الاسرائيلي على مصر وسوريا والأردن في 1967، وحرق الكنيس اليهودي في العاصمة تونس، جعلت المترددين يحزمون حقائبهم ويُهاجرون إلى اسرائيل أو فرنسا. وهكذا غادر أربعة آلاف يهودي إلى اسرائيل. وشكل قطع العلاقات بين تونس وباريس، خلال تلك الأزمة، كابوسا لليهود التونسيين، الذين تزايدت مخاوفهم فهاجر منهم 4500 شخص إلى اسرائيل، بحسب ألفة بن عاشور.
ولدى صعود زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم في 1987 خلفا لبورقيبة، سمع اليهود خطابا مُطمئنا، وكان عددهم آنذاك 5000 يهودي يقيمون بين العاصمة تونس وسوسة والمنستير وجرجيس وجربة. ثم أتت أزمة الخليج الثانية التي اعتُبر موقف بن علي منها مؤيدا للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، فأطلق حملة علاقات عامة مع العواصم الغربية المؤثرة، وفي مقدمها الولايات المتحدة. وحض بن علي في خطاب ألقاه في 1992 اليهود التونسيين على العودة للإقامة في بلدهم أو أداء زيارات سياحية للمعالم اليهودية، التي أعيد فتحها في مدن عدة وإخضاعها لعمليات صيانة.
وشكل تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية أهم ورقة استثمرها بن علي لكسب رضا الأمريكيين. وفي سياق ذاك التقارب، فتحت اسرائيل مكتبا للاتصال في تونس، كما فتحت الأخيرة مكتبا مماثلا في تل أبيب، اعتبارا من 1995، تنفيذا لاتفاق وقع عليه وزير الخارجية التونسي آنذاك حبيب بن يحيى ونظيره الإسرائيلي إيهود براك. واستؤنفت إقامة طقوس الزيارة السنوية لكنيس «الغريبة» في العام نفسه. وبعدما وصل عدد الزوار اليهود في مطلع القرن الحالي إلى 8000 زائر، وباتت رحلات جوية مباشرة تنقل اليهود من اسرائيل إلى جربة، أتت العملية الانتحارية التي استهدفت «الغريبة»، والتي نفذها تونسي مقيم في كندا في 2002 لتسدد ضربة قوية، ليس فقط لإقبال اليهود على زيارة جربة، وإنما أيضا للقطاع السياحي برمته. وألغيت طقوس «الزيارة» في 2011، في أعقاب تنحية الرئيس الأسبق بن علي لدواع أمنية، قبل أن تُستأنف في العام التالي.
لم تُثمر عملية التطبيع التي أطلقها بن علي في تسعينيات القرن الماضي تقاربا شعبيا بين الدولة العبرية وتونس، إذ عارضت فئات واسعة من النخب والمجتمع المدني والأحزاب والنقابات جميع مظاهر التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي. وفي أبريل الماضي قضت محكمة تونسية بحظر مشاركة أربعة لاعبين اسرائيليين في مسابقة للتايكواندو كان مقررا إجراؤها في تونس. غير أن الوجود غير المرئي للاسرائيليين بدا أكبر من المتوقع، خاصة على الصعيد المخابراتي. وأتت عملية اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري على أيدي عناصر من «الموساد» الاسرائيلي أمام بيته في مدينة صفاقس، لتُميط اللثام عن توسُع الشبكة المؤيدة لاسرائيل داخل البلد. وأفاد مسؤولون في المؤسسة القضائية التونسية أخيرا أن مُنفذي عملية اغتيال الزواري يعملان في «الموساد» ويحملان الجنسية البوسنية، وقد رفضت السلطات البوسنية طلبا تونسيا بتسليمهما للقضاء.
هُوية رجراجة
يقول ألان شوفان في دراسة عن يهود تونس متعجبا «إذا كانت الأواصر بين أفراد الطائفة اليهودية في العاصمة تونس، والمؤلفة من 250 شخصا، مُفككة، وإذا كانوا يُخططون لمغادرة البلد، فإن أقدام يهود جربة وجرجيس (المجاورة) راسخة في الأرض، وهم لا يريدون أن يسمعوا بشيء اسمه «الهجرة»، على الرغم من الحروب وتعاقب الأنظمة السياسية المختلفة، وغياب أي أفق للمستقبل».
ويُضيف «إنهم متمسكون بتراثهم وتقاليدهم التي تعود جذورها إلى وصول بضعة آلاف منهم إلى جنوب تونس، حيث وجدوا ملاذا لهم وشيدوا كنيس «الغريبة» في سنة 587 قبل الميلاد». واستطرادا، يتضح أن اليهود التونسيين ليسوا على قلب رجل واحد، وأن تمثُلهم للهوية القومية متفاوتٌ من مكان إلى آخر، فبين الذين هاجروا إلى فلسطين (ومنهم وزير الخارجية الأسبق ورئيس حزب العمل سابقا سيلفان شالوم) وأقاموا هناك، ومن فضلوا المكوث في باريس، فوارق كبيرة، مثل الفوارق التي تُباعد بين الثابتين في جربة وجرجيس، وأولئك الذين تركوهما واستقروا في الخارج. ولذا لا توجد هوية ثابتة لليهود في تونس، وإنما هي هوية متحولة ورجراجة، تعكس في كل الحالات قلقا وجوديا مستمرا.
كاتب تونسي
رشيد خشانة