يقدم معرض «يوروبا» للفنانة الفلسطينية إميلي جاسر في غاليري «وايتشابل» شرق لندن الذي ينتهي الشهر المقبل، معظم انشغالاتها في النبش والبحث بالضرورة عن الذاكرة المفقودة: عن الطائرة التي تأخر وصولها إلى مطار اللد وضاعت فيما بعد، عن الجثة المدماة والملقاة في شارع من شوارع روما لمثقف فلسطيني، عن محطات لقطار بأسماء عربية وإيطالية وعن كتب «مهجورة» أو مسروقة من أهلها الذين غابوا وصودرت منهم بأغلفتها وبتقاليد تدوين ملاحظات الشراء والإهداء وهي بالضرورة تعبر عن حياة ثقافية حية وكانت منتعشة بكل صورها واشكالها من الألق المتجذر في المكان وبنائه.
وبالنسبة للفلسطيني وللفنانة بالتحديد فكل شيء يواجهه/تواجهه يعيد إليه بعضا من الذكريات الفلسطينية الضائعة. ومن هنا فـ «يوروبا» يعبر عن تجربة الفنانة على مدار سنوات عدة. وهي كما قالت في أكثر من لقاء، تشتغل على المشاريع الطويلة الأمد والتي تأخذ سنوات من البحث والإعداد والتشكيل وهذا يعود لأنها لا تنشغل بالرسم فقط ولكنها تحاول بناء معنى للحياة أو الموضوع الذي تتصدى له عبر مجموعة من الأدوات الفنية والآليات التي تضم الأفلام والتصوير الفوتوغرافي والرسائل المكتوبة والبوست كارد والأرشفة والتسجيلات الصوتية والإحتفاء بالخط العربي واقتباس الحكم . إضافة لملصقات المقاومة الفلسطينية وكل ما يتعلق بأدوات البناء الفني حيث تتحول هذه المواد حقلا أو حقولا لاستعادة «الزمن الجميل» أو اللحظة الصادمة والمرة في تاريخ الشعب الفلسطيني. وفي حالة «يوروبا» تتداخل مأساة الشعب الفلسطيني مع الذاكرة الثقافية للمنطقة العربية وعلاقاتها بمجريات الحداثة وتشكلاتها التي انطلقت مع ولادة المدن/الدول في جنوب المتوسط وكيف تماهت وانصهرت ثقافيا مع المحيط العربي والإسلامي والمسيحي الأوروبي. فنحن في «يوروبا» لا نستعيد ما ركز عليه الكثير من النقاد الذاكرة المفقودة فقط لشعب شرد من أرضه وبل والتلاقح الحضاري بين عالمين متضادين ولكنهما متقاربان. وتنجح جاسر في التقاط الملامح هذه من خلال الأشياء الصغيرة والحميمية والتي عادة ما تكون مبعثرة في الحياة اليومية مثل غرفة تجمع شتات ما يحن إليه الإنسان ويحبه من كتب ومقتنيات، وما جمعه من رحلاته وسياحاته وما تلقاه من هدايا. ولكن في «يوروبا» تعيد جاسر ترتيب الذاكرة لبناء القصة الفلسطينية والتي يمكن أن تقرأ من أي زاوية. من زاوية الإغتيالات لرموز الحركة الوطنية في أوروبا أم من الحياة المستعادة في مخيم تل الزعتر أو من تشكيل وبناء المطار الفلسطيني وبالمحصلة فالزائر لـ»يوروبا» يعيش التجربة بكل تفاصيلها.
زعيتر
وفي بدايتها «مادة من أجل فيلم- عمل متطور» عن الشهيد وائل زعيتر (1934- 1972) وهو العنوان الذي أخذته الفنانة من فصل بكتاب أعدته صديقة زعيتر، جانيت فين براون «لأجل فلسطيني: تذكار لوائل زعيتر» (1979) وكان زعيتر المولود في مدينة نابلس وابن المترجم الكبير عادل زعيتر، أول فلسطيني يغتاله الموساد الإسرائيلي في روما (16 تشرين الأول/اكتوبر 1972). وكان الفصل الذي كتبه كل من إليو بيتري وأوغو بيرو عبارة عن مشروع فيلم لم ير النور نظرا لوفاة بيتري.
ومن خلال هذا العنوان أعادت جاسر بناء حياة «مثقف فلسطيني» في روما كان أول ضحايا انتقام إسرائيل العشوائي على عملية ميونيخ التي قتلت إسرائيل من أجلها عددا من مثقفي الثورة الفلسطينية وقادتها. وأعادت جاسر ليس قصة اغتياله ولكن حياته ككاتب ومترجم وفنان كان مقبلا على الحياة في روما. وكتبت فصلا جميلا عن اهتمامات هذا المثقف والناشط الفلسطيني. فصديقة زعيتر الفنانة المولودة في استراليا فين براون احتفظت بكل ما كان يملكه وأضافت جاسر إلى هذا بعدا آخر وهو بناء بعض ملامح حياته في نابلس التي ولد فيها والنتيجة قصة كاملة وفيلما بصريا. فيواجه الزائر أولا صورة الشهيد وهو ملقى أمام شقته في «بياتزا أنيباليانو» في روما بعدما قتله الجناة ودمروا جسده وما كان يحمله من ذكريات وأحلام. «ألف ليلة وليلة» الكتاب الذي كان يحمله في تلك الليلة ويحلم بترجمته مباشرة من العربية إلى الإيطالية نظرا لعدم وجود مثل هذه الترجمة في إيطاليا، وفي المرحلة الأخيرة من المعرض نشاهد النسخة وقد اخترقها الرصاص. لكن جاسر تعرض لنا صورا لأغلفة الكتب التي كانت في مكتبته وهي تشير لاهتمامه بالفلسفة والاشتراكية والرواية وأعمدة الحداثة الشعرية الأوروبية مثل عزرا باوند وتي إس إليوت والدوس هكسلي وهوميروس ودستوفسكي ودانتي حيث احتفظت صديقته بنسخة صغيرة من «الكوميديا الإلهية» كانت في جيبه وكلها تعطي صورة عن مثقف متعدد الإهتمامات. وتقول جاسر إن كتبه العربية أخذها مكتب الجامعة العربية في روما ولم تفلح محاولاتها لتصويرها. ومع ذلك فنحن أمام مثقف كان مندمجا بكل تفاصيل الحياة الأدبية في روما وفي السنوات العشر الأخيرة التي قضاها في العاصمة الإيطالية أقام صداقات مع الرموز الأدبية فيها مثل ألبرتو مورافيا الذي نظم له رحلة أدبية إلى سوريا والعراق والكويت ورفائيل البرتي وأنطونيو غامبني وبرونو كاغيلي وجان جينيه. وذكرتني بطاقة معايدة بدوار نابلس أمام المستشفى الوطني الذي كان علامة المدينة واختفى اليوم بفعل العمران المتزايد والتغييرات التي قتلت روح المدينة. وهنا صور لزيارة شقيقة زعيتر لروما طبعا بالأسود والأبيض ولقطة من فيلم «بينك بانثر» حيث لعب في دور مساعدا كنادل. وتقول صديقته إن المخرج أعجب بصوته وأعطاه دورا لكنه كان يتجمد أمام الكاميرا كلما بدأ التصوبر ولم نر في الفيلم سوى شبح أبيض يتحرك بين الضيوف. وبالنسبة لجاسر فمواد الفيلم، المشروع الذي بدأته قبل عشرة أعوام هي رحلة في حياة زعيتر واستكشاف لروما والأماكن التي عاش فيها وزارها حيث قابلت فين براون ومن عرفه وزارت نابلس أكثر من مرة وقابلت شقيقته نائلة المحاضرة في جامعة النجاح. وبالنسبة لها فهو «مادة من أجل فيلم» مشروع لم يكتمل بعد ولا يزال يتطور. وكل هذا يعني أن الموساد قتل جسد زعيتر لكن روحه وأحلامه في الثقافة لا تزال حية، فالذاكرة في هذا السياق أقوى. وفعل المقاومة الذي بدأه زعيتر يتواصل حيث تندمج حياته بالمواد التي جمعتها الفنانة.
ذاكرة الكتب
وفي قاعة أخرى نواجه ملمحا آخر من انشغالات جاسر وهي الكتب أو «ممتلكات مهجورة» والتي سرقت من بيوت الفلسطينيين أثناء النكبة ووضعت في المكتبة الوطنية اليهودية في الجامعة العبرية بالقدس. وأثناء زياراتها للمكتبة صورت على هاتفها الكتب المحفوظة فيها وهي 6.000 كتاب. وتعتبر جزءا من 30.000 كتاب سرق وضاع من بيوت الفلسطينيين. وفي «ex Libris» تعرض ما صورته وجسمته من أغلفة الكتب وهي دواوين شعر وروايات وكتب صلاة مسيحية ومخطوطات وكتب أدبية واجتماعية. وقامت بفهرسة الكتب وتسجيلها على لوحات تعكس العراقة والقدم واختارت إهداءات طورتها للوحات كبيرة نصبت بعضها أمام دارة الفنون في عمان وأخرى في نيويورك وفي كل المدن التي عرضت فيها أعمالها. فجاسر تقوم بترميم الذاكرة الفلسطينية أو ما نجا منها مع أن مصير مكتبات عدد من المثقفين لا يزال مجهولا أو ضائعا. يواجه الزائر بلوحة «خدمة للعلم والأدب أقدم هذا الكتاب النفيس هدية لمكتبة مدرسة الذكور الابتدائية في عكا. كاتب إدارة المعارف – عكا – حنا موسى – 10 آذار/مارس 1942». ولوحة أخرى «هذا الكتاب يخص صاحبه فتح الله سعد اشتراه من ماله غرة آذار 1892 – هدية إلى غرفة تجارة عكا – 30/8/1940». وتظهر أغلفة الكتب التي صورتها جاسر وأخرجتها للنور من أسر المكتبة اليهودية الحياة الثقافية قبل النكبة في تجلياتها المكانية وانفتاحها على العالم الرحب. هنا كتاب «العواصف» لجبران خليل جبران وكان يمتلكه نقولا الديب من حيفا و «كليلة ودمنة» الذي كان بحوزة أسعد الشقيري و»مصرع كليوباترا» لأحمد شوقي من «مكتبة القدس للشبان المسيحيين». شعرت بحميمية وأنا أتجول في الغرفة وأقرأ عناوين الكتب لأن بعضها ما زال بحوزة والدي وامتلكه جدي وتشبه الكتب المغيبة والمسروقة في ظلمة المكتبة اليهودية. ولهذا فجاسر لا تعيد كتابة زمن القراءة وشوق الفلسطيني للمعرفة والحضور بل وتقوم بإحياء الذاكرة الجمعية الفلسطينية بكل تفاصيلها. بعد الجولة الثرة والمثيرة للخيال لأن الكتاب هو رحلة طويلة في اللامعلوم والمتخيل بقدر ما هو تصوير للواقع، تواجه المشاهد فواتير لتغيير 100 دولار حيث تراقب الفنانة الكيفية التي يتقلص فيها المبلغ مع كل عملية تغيير للعملة والعمولة التي تأخذها شركة الصرافة لينتهي المبلغ إلى مجموعة من التكات أو الفلوس، تجريب في العبث أو محاولة لدراسة واقع الفلسطيني الذي يخرج من كل تجربة وقد تنازل عن شيء وأجبر للتراجع عن شيء. وربما تبحث عن تفسيرات أخرى فالمال له رمزيته وهو الذي لعب دورا مهما في المأساة اليومية للفلسطينيين.
مطار اللد
في «مطار اللد» استمدت جاسر مادته من حكاية سفر الأمريكية إميليا إير هارت عبر الأطلنطي وكانت ستزور فلسطين. وفي تلك الفترة كان الموظف إدموند تماري ينتظر وصولها وهو يحمل باقة ورد للترحيب بها، لكنها لم تصل وتحول المطار «مطار اللد» عام 1972 إلى مطار بن غوريون. وغابت «شركة الطرق الجوية الفلسطينية» الذي كانت تطير منه مثلما غابت فلسطين. وهنا تستعيد جاسر اللحظة وتلعب دور المضيفة لهارت وتنتظر وتنتظر وتقلع الطائرات وتصعد إلى سطح المطار ولكن الطائرة لم تصل. عمل مؤثر عن الإنتظار وأكثر من هذا عن المكان الفلسطيني الذي ضاع والمطارات التي يفتقدها الفلسطيني كلما ركب طائرة وتعرض للإهانة في المطارات العربية وقوبل بنظرات الشك في الأجنبية وفتش ورحل عن المطارات الإسرائيلية. ويزيد في قوة الفيلم المجسم للمطار المعروض في غرفة ان واحدة من موظفات الغاليري تحرسه وكأن الذاكرة الفلسطينية الآن محروسة ولن تغيب.
تل الزعتر
فيلم «تل الزعتر» هو جزء من مشروع ترميم واستعادة الذاكرة الفلسطينية. وهو الذي أخرجه أبو علي مصطفى وجان شمعون. وهنا نواجه صورة أو لوحة أخرى من الذاكرة الفلسطينية، لوحة المقاومة ووجوه الشباب في السبعينيات من القرن الماضي والذاكرة التقليدية والحياة الجمعية للمخيم. نعرف ما جرى لتل الزعتر وللمخيم الفلسطيني في لبنان ولهذا فمجرد استعادة صوره تذكرنا بالمقاومة والرحيل والتشرد وقصة الفلسطيني التي لم تنته. يحتوي المعرض على مشروعها «ستاسزيوني» (محطة) والذي اقترحت فيه إضافة الأسماء العربية للمحطات على الطريق رقم واحد في «غراند كانال» وهو تدخل من الفنانة في الفضاء العام يهدف لعقد حوار بين الثقافة العربية والإيطالية لكن سلطات البندقية ألغت المشروع وبقيت صوره. وعرض لحفلة موسيقية للفنان الفلسطيني ـ النمساوي مروان عبدو الذي رحلته إسرائيل من مطار اللد. ودعته جاسر لتقديم حفلته أمام جمهور مفترض، ولا شيء سيحدث «ثمانية أيام سبت في لينز» حيث تصور الفنانة الحياة في ساحة من ساحات المدينة النمساوية ومن باريس إلى الرياض «رسوم لأمي». وتحمل في بنائها شعرية اللحظة وشتات السيرة الذاتية والفلسطينية.
.
إبراهيم درويش