قبل أكثر من أربعة عقود من عمر الرواية، صرخ العقيد أوريليانو بوينديا ـ بطل رائعة ماركيز «مئة عام من العزلة»- فقال: أنظروا البلاء الذي جلبناه لأنفسنا لمجرد أننا دعونا أمريكيا لأكل الموز عندنا!!
الفضائيات العربية، قطفته كله، لتصبح في المحصلة عموما مخمر موز هوليوودي وتصبح أغلب ساعات بثها نسخة معربة لإنتاج هوليوودي أو إنتاج إخباري على الطريقة الهوليوودية.
لا تحتاج إلى بروس ويليس ولا سلفستر ستالون لكي تستمتع بفيلم «أكشن فانتازي»، وتكفيك وصلة إخبارية مصورة على فضائنا العربي منقولة من أرض الواقع لتأخذ جرعتك المطلوبة.
هذا من ناحية الأخبار، أما باقي البث البرامجي فهو منقسم غالبا بين أفلام هوليوود ما غيرها (وقد انتهت مدة صلاحية عرضها السينمائي) أو برامج أمريكية مترجمة أو محاولة إعادة إنتاج بعضها بلسان عربي كله عوج.
لكن أكثر ما يستفزني في فضاء الإعلام العربي، هو هذا الكم من جنرالات الكلام، والذين تكرسوا خبراء على حساب العقل والمنطق، ليصبحوا أولياء الفقه السياسي وأوصياءه، ويصبح الحديث الفضائي مهنة من لا مهنة له.
حتى في هذه الجزئية فشلنا في تقليد الأمريكان، فهم يستحضرون خبراء وصناع قرار يدركون كل كلمة يقولونها على الشاشة، أما نحن، فاستحضرنا من يهرف بما لا يعرف.. لتصبح البرامج الحوارية بمجملها ـ وإلا قليل منها- أشبه بطاجن معكرونة بالباشاميل، لذيذ.. ويقنع المعدة لساعات فقط.
من مدافع عن الإنسانية لمدافع عن بعوضة
مناضلوا الفضائيات العربية، ذكروني بالسيد يوست.. صديقي الذي فقدت أثره في بلجيكا منذ عامين. والله يذكرك بالخير صديقي الرفيق المناضل.
ويوست هذا تعرفت عليه أول قدومي لبلجيكا قبل سنوات. وكان متزوجا من ساندرين التي التقاها في مصح الامراض النفسية، حيث كانا يتعالجان، واتفقا على الزواج بعد الخروج.
يوست، كان مناضلا، اذا افترضنا أن المناضل هو من يملك قضية!! وقضية يوست، التي حاول مرارا وتكرارا اقحامي بها كناشط معه هي قضية غريبة ومختلفة وصعقتني حينما طرحها علي أول مرة في بيته وامام كمبيوتره الشخصي، والذي يدير منه مدونات ومواقع انشأها من أجل قضيته الاممية!!
كان يوست باختصار رئيس الحملة الدولية للحفاظ على بعوضة «الكيوليس» المعرضة للانقراض.
وهي حملة أنشأها بمبادرة ذاتية ذات لمعة تاريخية!!
وفي اعتقادي الشخصي، اذا افترضنا أن ساندرين زوجته كانت ناشطة معه، فربما أكون أنا الثالث والأخير من ضمن أعضاء حملة يوست الدولية.
يوست – الله يسلمه – كان يرى أن تلك البعوضة مضطهدة ومظلومة، وكان يكره هذا الانتشار الجماهيري لبعوضة «الانوفليس» الشهيرة حتى في الشهرة على حساب بعوضة «الكيوليس» المغمورة، والتي تعاني انخفاضا حادا في أعدادها، حسب قوله ودراساته، مع أنه تجنب كثيرا الاجابة على استفساري حول كيفية احصاء هذه البعوضة ومعرفة انخفاضها الحاد والمؤسف طبعا!
يوست، وذات شاي أخضر، غير محسوب النتائج، أقنعني بالتوقيع الإلكتروني على حملته وامضينا ليلة «كيوليسية» تم فيها شرح تاريخ وسيرة حياة البعوضة الفاضلة!
كان انضمامي غير الواعي لحملة يوست سببا في قراري الحاسم بقطع علاقة الصداقة معه وفورا، وهكذا كان!
بعدها بسنة سمعنا أن ساندرين انتحرت لأسباب لا تتعلق بالبعوضة، ويوست تعرض لصدمة وانتكاسة نفسية واختفى فجأة بلا أثر.
يوست، الله يسلمه ويذكره بالخير، أتذكره اليوم حين استرجعت سؤالا كنت سألته إياه في غمرة حملتنا البعوضية، ومفاده لماذا لا يتبنى قضية إنسانية أو سياسية، لماذا مثلا لا يتبنى قضية فلسطين، ما دام حنونا الى درجة البكاء على البعوض؟
إجابته التي صدمتني بعفويتها جعلتني لا أكرر السؤال بعد ذلك!!
يوست، بكل ما يملك من بساطة، هي عنوان عينيه الحزينتين خلف نظارته المجهرية، قال لي: كنت ناشطا سياسيا قبل أن أدخل مصح الأمراض النفسية، كنت ضد أمريكا وسياساتها في كل مكان!!
لم يكمل لي ما حدث معه، ولم يشرح، لكن فهمناها (بألم نشرح) واضحة من غير التباس.
يوست اختفى، وساندرين في دار الحق، وليس لـ»الكيوليس» من يدافع عنه الآن!!
تهنئة لعشائر «الكلاونة»
وفي سياق الحديث عن الجنون والانهيارات العصبية، يكاد المرء يفقد عقله أيضا لكثرة الأخبار الواردة عن الزواج الأسطوري للعازب الأشهر «جورج كلوني» على الفاضلة أمل علم الدين.
أينما وليت وجهك في الإعلام الفضائي أو الانترنتي، تجد صور وأخبار وتفاصيل هذا الزواج!! وآخر ما توصل إليه جنرالات الإعلام الـ»فيسبوكي العريي» تكييف هذا الزواج شرعيا، وإطلاق فتاوى ببطلانه!! هكذا والله بكل بساطة!
شخصيا، أنا أحب جورج كلوني، وأحترم السيدة أمل علم الدين وتاريخها المهني المشرف، والذي أجد فيه قيمة أكثر من تاريخ كلوني السينمائي.
وأميل إلى أن الطريقة الفانتازية لهذا الزواج منهجية كلونية لتعويض خسائره السينمائية، خصوصا بعد فشله الأخير كمخرج !!
ما لا أفهمه، هذا الهوس العربي بزواج كلوني، على اعتبار أنه نسيبنا، إلى درجة أني شعرت بالتقصير والحرج من عدم تقديمي واجب «النقوط» للعريسين.. بل كان الأجدى أن أنشر إعلانا مدفوع الثمن في «القدس العربي» على الصفحة الأولى تهنئة مقدمة باسمي واسم عائلتي إلى عشائر «الكلاونة» أجمعين بمناسبة زفاف ابنهم جورج. وربما لو أتممت الواجب بزيارة لبيت العريسين حاملا معي شوال رز أو سكر، جريا على عاداتنا في بلاد الشام، وذلك لمساعدتهم على تحمل أعباء الحياة الجديدة.
إعلامنا العربي قادر على اجتراح المعجزات.. وهو في تغطيته «الخلاقة» لزواج كلوني الأسطوري استطاع أن يكشف عن رواسب نفسية عميقة فينا.. أهمها وأكثرها تجليا، عقدة النقص!!
٭ إعلامي من الأردن يقيم في بروكسل
مالك العثامنة