يوميات عن الشعر والموسيقى ونكد الدنيا!

حجم الخط
0

 

18/2/1949:
عصراً غادرنا البيت نحو كلية الآداب والعلوم، حيث اجتمعت «ندوة الشعر» برئاسة مستر ستيورات ومستر باربانك والشاعر الفلسطيني ابراهيم الحوت. وقد ألقى المستر ستيورات على المستعمين محاضرة موضوعها «وظيفة الشعر في الحضارة الحديثة الآلية»، كان ملخص رأيه أن الشعر الدرامي والتعليمي قد فقد منزلته في عصرنا، وأن الثوب الوحيد الذي يلبسه الشعر المحبوب اليوم، هو الشعر العاطفي Lyrical. وهو ينصح الشاعر الحديث أن يعبر عن روح العصر ويستعمل صوراً من الواقع وإلا غرب نجم الشعر نهائياً. وختم المحاضرة مستشهداً بقصيدتين للشاعرين الأمريكيين إزرا باوند وت. س. إليوت، قائلاً إن شعرهما ناجح، لأنه يمثل روحية العصر الحديث، وأن إليوت هو أول من أدخل الألفاظ اليومية إلى الشعر.

30/10/1949:
بعد الظهر وردتنا مجلة «البيان» وفيها كلمة قصيرة عن «شظايا ورماد» اغضبتني الى حدٍ بعيد، الكاتب صاحب المجلة «الذكي» يقول بالحرف الواحد: (شظايا ورماد تكفل (!) مجموعة من القصائد التي تعودت عليها الشاعرة في التجديد ومعظمها من الشعر المنثور!). أليس من نكد الدنيا أن تكون المجلات في أيدي اميين كهذا الانسان؟ إنني أثور لأنني أكره أشد الكره ما يسمى بالشعر المنثور، وطالما وضعت من يكتبونه بأرداً النعوت.
في مجلة البيان أيضاً قرأت أن بدر السياب يطبع ديوانه «أساطير» مع مقدمة ضافية. وقد سرني هذا الخبر.. في الأقل لكي لا أجابه ثورة النقاد وحدي! الآن سيتلقى الزميل الموهوب بعض الهجمات مثلي. وا أسفاه أيها الزميل، سيقولون لك إن شعرك منثور، وسيصدقهم الجهلاء.

27-11-1949:
قرأت النصف الأول من «مذكرات الأرقش» وهو كتاب جديد لميخائيل نعيمة، وراقتني الصفحات الأولى لأن شخصية الأرقش لاحتْ لي مبتكرة، ثم اكتشفت أن المؤلف حشا الأرقش بأفكاره التي ألفناها في كتبه كلها، الوجود عرض زائل، والأهواء البشرية رخيصة فانية وهكذا. ما أبعد العالم الذي يحيا فيه ميخائيل نعيمة عن الحياة، ومع ذلك يظن أنه أحد الكتاب الواقعيين الذين لا يعيشون في الأبراج العاجية. هذا الكاتب يحتقر العواطف والمشاعر البشرية كلها ويدعو إلى لون من الحياة الصوفية الباردة التي لا يهمها الأحاسيس الجميلة الشفافة.. وأنا أحس كلما قرأت كتبه أنني أختنق.
30-11-1949:
في الشارع عند عودتي إلى البيت لقيت النحات خالد الرحال، فسار معي حتى محطة الباص، ووقف حتى أقبلت الحافلة، يكلمني عن «شظايا ورماد». قال إن قصيدة «مَرَّ القطار» تمثل له الدورة الدموية للحياة البشرية تمثيلاً دقيقاً، وانه أحب قصيدة «كبرياء». ثم قال إنه منغمس في صنع تماثيل جديدة. أشعر إنني أريد أن أؤلف كتاباً فكرياً خالصاً أعالج فيه قضية المرأة في العصر الحديث، وتاريخها في العصور الماضية، وما أرجوه لها في المستقبل، وسبب رغبتي أنني ألاحظ أن نظرية هامة قد تكونت في ذهــنــي، وترسبت تفاصيلها ببطء طيلة السنوات الماضــيـــة، وأنني خير من يستطيع الكلام حول الموضوع، لأنني إحدى الــقــلــيلات اللواتي يملــكن من قوة الرغبة في حياة الفكر ما يجعلهن يحــتملن التضحية بسعادة الحياة كلها من أجل الأدب، ولذلك استطعت أن أتفرغ للدراسة هذا التفرغ، وبذلك تهيأ لي سبيل الردّ على مهاجمات أعداء المرأة مثل توفيق الحكيم، وشوبنهاور، وزكي مبارك، وغيرهم.

9-12-1949:
ظهراً استمعت إلى السمفونية الأولى لسيبليوس ثم إلى «فنلانديا». ما أعظم الموسيقى! إنها تحيرني دائماً. أقرر الاستماع إلى السمفونية الأولى، فأحضر الاسطوانات وأدير الجرامفون وأجلس صامتة، وأنتظر، مدركةً أن شيئاً غريباً سيحدث لي رغماً عني. وحين تبدأ الموسيقى تشقّ طريقها إلى نفسي، أحس بهدوء مطلق، ثم تنشط قواي النفسية نشاطاً مثيراً، فأنفعل بحدة وحرارة، وأود لو عانـقــت الــكــون.. لو صنعت شيئاً غريباً.. هائلاً.. عظيماً.
هذه السمفونية الأولى لسيبليوس تؤثر في نفسي تأثيراً لا سبيل إلى سبر غوره، أجد نفسي دامعة العينين كلما أصغيت إليها، وأنغامها تحفر روحي حفراً، ولا تبقي في قلبي موضعاً غير مجروح. لا بدّ أن سيبليوس كتبها على أثر حبٍ فاشل، وإن كانت انغامها تسمو بالروح فوق الحبّ، وفوق مجرى الحياة اليومية، وهي تذكر السامع بعالم غامض غير محدود في مكان ما من الكون. في الليل قرأت سيرة الفيلسوف فرانز بيكون في ثلاثة مراجع انجليزية استعداداً لكتابة مقال عن آرائه في الحياة، كلّفنا بكتابته الأستاذ ستيوارت

٭ ملحق «المدى» الثقافي، 2007،
إعداد إحسان الملائكة

أن تكون الرائدة امرأة.. وعراقية!

كانت العراقية نازك الملائكة (1923ـ2007) ثاني أبرز اسمين، بعد مواطنها بدر شاكر السياب (1926ـ1964) في ريادة حركة التجديد الشعري العربية، التي انطلقت عملياً ابتداءً من أواخر أربعينيات القرن الماضي؛ كما أنها احتلت مكانة خاصة ضمن صفوف الجيل الذي عُرف باسم «الروّاد» لانها لم تكتفِ بتطوير شكل القصيدة، من العمود إلى التفعيلة أو «الشعر الجر»، بل حاولت التنظير للحركة من خلال كتابها الرائد «قضايا الشعر المعاصر»، 1962، ودرست فيه مشكلات الشعر الحر، واقترحت له عروضاً كاملاً.
في سنة 1947 أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى، «عاشقة الليل»، وقد أسمتها هكذا لانّ الليل عندها كان يرمز إلى « الشعر، والخيال، والأحلام المبهمة، وجمال النجوم، وروعة القمر، والتماع دجلة تحت الأضواء»، كما كتبت. ولأنها، أيضاً، كانت مستغرقة في الرومانسية، الرائجة يومذاك على نطاق واسع لدى الأدباء العرب، ومتاثرة بمناخات شعراء اللغة الإنكليزية الغنائيين. وكانت القصائد عمودية بالطبع، وتقليدية، تساير أعراف تلك المرحلة، على شاكلة قولها: «وأصبحتْ ذكراكَ وهماً يلوحْ/ يشتاقه قلبي الكئيب الغرير/ يا جسداً، كالقبر، ما فيه روحْ/ سمّيتُه قلباً، فيا للغرور!».
لكن شرارة الثورة التجديدية سوف تبدأ تلك السنة تحديداً، مع قصيدة «الكوليرا»، التي كتبتها الملائكة في صيغة العمود أولاً، ثم أعادت كتابتها ثانية بعد تغيير البحر، ولم تقتنع بأنها عبّرت عن مشاعرها تجاه المآسي التي كان ذلك الوباء يخلّفها في مصر، فكتبتها في نسخة ثالثة، متحررة هذه المرّة من عمود الخليل، حيث سار مطلعها هكذا: «سكَن الليلُ/ أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ/ في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ/ صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ، حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ/ يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ».
بعد سنتين سوف تصدر الملائكة مجموعتها الشعرية الثانية، «شظايا ورماد»، وقد صدرتها بمقدمة مسهبة شرحت فيها نظرية عروضية خاصة بشعرها الجديد، الذي كانت قد نشرت منه في المجموعة عشر قصائد. تقول الملائكة: «وما كاد الكتاب يظهر حتى أشعل ناراً في الصحف، والأندية الادبية، وقامت حوله ضجة عنيفة، وكتبت حوله مقالات كثيرة متلاحقة، كان غير قليل منها يرفض الشكل الجديد الذي دعوت اليه، ويأباه للشعر». على نقيض استقبال الأوساط الشابة، إذْ سرعان ما انتقلت الدعوى، بل العدوى، إلى مصر، ولبنان، وسوريا، وكان عدد غير قليل من القصائد الجديدة يحمل إهداءً إلى الملائكة.
لكن مناخات التجديد الخمسينية، التي كانت غائمة مضطربة بقدر تلهفها على إحراز قفزات دراماتيكية، سمحت للملائكة باستسهال إطلاق تسمية «الشعر الحرّ» على القصيدة التي تحرّرت من عمود الخليل بن أحمد ولكنها ظلّت مُلزَمة وملتزمة بـ «عمود» تفعيلي من نوع آخر، ليس أقلّ نسقية في الحقيقة؛ وبنظام في التقفية ليس أقلّ جموداً، إذا لم يكن أقلّ ديناميكية في رتابة توزيعه. أكثر من ذلك، وجدت الملائكة أن هذا النظام العروضي الجديد لن يكون مرتاحاً إلا في البحور التي تقوم على تفعيلة متماثلة (الكامل، الرمل، الهزج، الرجز، المتقارب،والوافر)، الأمر الذي عنى استبعاد البحور الأخرى.
غير أنّ الملائكة لم تكن رائدة امرأة، في مجتمع شرقي ذكوري لا يعترف بالثورة للرجال، فكيف بالنساء، فحسب؛ بل كانت، كذلك، رائدة في العراق، أحد أنشط المراكز الشعرية العربية، تسعى إلى التجديد صحبة كوكبة من الشعراء النجوم الرجال، من السياب إلى عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري؛ فضلاً، بالطبع، عن القامة العالية التي كان محمد مهدي الجواهري يمثلها في قصيدة العمود. ولأنّ الحركات التجديدية المعاصرة في الشعر العربي تدين للملائكة بالكثير، فإنّ ذلك في حدّ ذاته شهادة بأنها كانت رائدة حقاً، وطيلة عقود عاصفة حافلة بالتحوّلات.

نص: نازك الملائكة

إشترك في قائمتنا البريدية