إرهاب السّرقات الأدبية؟ 

أندهش أحياناً كيف يتحدث بعض القراء، والكتاب، والنقاد العرب أيضاً عن السرقة الأدبية بسهولة كبيرة، بلغة فضفاضة لا تمت بصلة للعلمية، وكأن المسألة لا تستحق كل الاهتمام الذي يليق بها بوصفها قضيةً شائكةً تضع جهداً إبداعياً في مواجهة جهد آخر. بينما ألف باء الموضوعية تقتضي توقفاً تأملياً وفكرياً وبحثياً ضرورياً.
لا يمكن لأي واحد أن يتهم كما يشاء، ووفق مزاجه المريض الذي يرى وراء كل حجرة عدواً مفترضاً تجب محاربته. يعرف جميع من مارس نقداً ثقافياً عاماً أو أكاديمياً، أنه من أشد الحقول التناصية تعقيداً، لأنه يستدعي بالضرورة البرهان ليس فقط بذكر النص المرجعي، ولكن أيضاً بالتوقف عند العلامات الماكرو والميكرو نصية، التي انتقلت من نص سابق إلى نص لاحق، وما هي القنوات التي سلكتها ليصل التناص إلى السرقة. اللهم إلاّ إذا كانت سرقة موصوفة وحرفية.
منذ سنوات وهذه المسألة تستفز الباحثين أولاً على صعيد إبداعي إذ لم يسلم نص عربي ناجح، حقق إما مقروئية معتبرة أو حصل على اعترافات أدبية وجوائز مرموقة. لم أسمع أن سدنة هذا النوع من الاتهامات ذهبوا نحو نص عادي. فتحطيم النموذج بالمعنى النصي وليس الفردي فقط، مسألة أصبحت أكثر من ضرورية عند هؤلاء. لا نعدم الأمثلة الكثيرة. في عصرنا وحده، اتهم هيكل عندما أصدر زينب، بسرقة هيلويز، لروسو، هذا طبعاً لا ينفي التناصات الجزئية الكثيرة. اتهمت أحلام بسرقة جهد شاعر كبير هو سعدي يوسف وقيل إنه هو من كتب ذاكرة الجسد. ولا أحد في حدود متابعاتي خص بحثاً في الموضوع وتابعه نقدياً ولغوياً وبنيات سردية ليثبت ما ذهب إليه. التهمة أعطت مفعولاً عكسياً. فقد تنامى عدد القراء فضولاً أو حباً في النص. الشيء نفسه قيل عن «عمارة يعقوبيان» التي اخترقت الحدود العربية، مهما كان رأينا فيها، لتحقق عالمية غير مسبوقة في الأدب العربي المترجم إلى اللغات الأجنبية.
تيمة السرقة بالمعنى الإبداعي كان مفعولها عكسياً ولم تحقق أي شيء. وتستفز الباحثين هذه المسألة أيضاً في أفقها الأدبي والنقدي، لأن القضية في النهاية تتعلق بموضوعة التناص كما صاغه المختصون فيه، باختين بالعمل على الحوارية، وجوليا كريستيفا بإدراج المصطلح ضمن المنظومة النقدية، الذي ثبته ميشيل رفاتير وانطوان كومبانيون، وحدده ووسع من مجالاته جيرار جنيت.
كلهم تعاملوا مع التناص Intertextualité بوصفه علاقة اختراق أو استقرار بقايا نص قديم، في عمق نص جديد، بطريقة معلنة وواضحة، أو إيحائية، من خلال سلسلة من العلامات التي تقود نحو النص الأصلي التي تصل حد السرقة الأدبية le plagiat إذا كان هناك ما يثبتها. هذا إذن يفترض سلفاً ملاحظة علاقة مع نص مفترض يتطلب من القارئ والناقد على حد سواء، تفكيراً عميقاً وقراءة واعية للنصين أو للنصوص المعنية، وعدم الاكتفاء بالعلامات والإيحاءات الأولية التي قد تكون خادعة وظاهرية. فالسرقة الأدبية تفترض وجود هذه العلاقات في شكلها السلبي النقلي. فلا شيء ينبع من الفراغ. هذه العلاقات هي في صلب العملية الأدبيــــة نفسها التي تتطلب تفكيكاً حقيقياً للبنيات النصية ودراســتها في جزئياتها وكلياتها.
أغلب النقود العربية اليوم تتجه مباشرة نحو الاتهام مثل الذي ألقي عليه القبض بالجرم المشهود، وبشكل إرهابي. حتى الساعة لم أر ناقداً عربياً واحداً أخذ العمل الروائي ودرسه بشكل عميق وعثر في «باكغراوند» الرواية، كل النصوص الصامتة التي نشأت عليها الرواية المتهمة. يجب أن لا ننسى بأن الأمر يتعلق بتهمة وليس بدرس نقدي. مجرد كلام عام وإحالات ساذجة جداً الكاتب نفسه يكون قد اعترف بوجودها في نصه. القصد من وراء ذلك هو الإساءة لا أكثر، بعيداً عن الجهد النقدي التأملي والتطبيقي. غواية انتقامية تستعير الوسائط النقدية ظلماً لتهديم نصوص حققت نجاحات عربية وعالمية. والغريب أن النصوص المشار إليها أو المتهمة، في الأغلب الأعم فازت بجوائز مما منحها اعترافاً نقدياً مميزاً. قبل خروج نص 2084/ نهاية العالم لبوعلام صنصال، و2084/ العربي الأخير، لواسيني، حدث سجال كبير، لتصبح الملاحظة البسيطة التي أبديتها في صفحتي في الفيسبوك حول تلاقي العنوانين، وهو أمر يمكن أن يلحظه أي قارئ جاد، أصبحت سرقة أدبية، استلمتها الصحافة الوطنية والعربية زمناً طويلاً. حسمتها بلقائي مع بوعلام في معرض كتاب باريس في لقاء خاص. قلت له لنتركها للنقد. الكتابان في السوق وليقرأ النقاد والمختصون إذا شاؤوا، وليكوّنوا فكرة حقيقية ويخرجوا من الانطباعية والعمومية. مرت سنة على صدور العملين ولا دراسة جادة تناولتهما من موقع مرجعهما التناصي المركزي 1984 لجورج أورويل. ماذا يعني هذا؟  منطق التهم هو العموميات لكن عندما يصبح الأمر جاداً ودراسياً ينسحب الكلّ نحو الظل، باستثناءات تحترم جهودها. الكل يتهم الكل.
آخر ضحايا هذه الماكنة الصدئة التي ألهبت مواقع التواصل الاجتماعي كان الروائي الكويتي سعود السنعوسي، فقد وجدوا له كاتباً يمنياً يتخفى من وراء روايته الناجحة «ساق البامبو»، والكاتبة التونسية آمنة الرميلي هي أيضاً لم تنجُ من هذه الماكنة، والغريب أن النصين نجحا فـــــي اخـــتراق الحاجز المحلي. «ساق البامبو» حازت «البوكر»، و«توجان» على جائزة الكومار الذهبي. وأخيراً وليس آخراً «مملكة الفراشة» الفائزة بجائزة «كتارا» التي بدأ فيها النقاش عن تناص محتمل مع رواية عراقية؟ وانتهى إلى السرقة الأدبية التي لا توجد إلا في أذهان أصحابه.
الذي لا يعرفه المتهمون هو أنهم يمكن أن يصبحوا موضوع متابعة قضائية، لأن في السرقة الأدبية الحق للمجني عليه في رفع دعوة قضائية قضية ضد متهميه. وهناك قضاء متخصص يشرف على ذلك مدعماً من ديوان حقوق التأليف والحقوق المجاورة. وهذا حق عالمي.  
  كيف نفسر الظاهرة التي انتقلت من العمل الثقافي إلى العمل الإرهابي، في النهاية سوى أن هناك عقلية مصابة بنكران الذات وجلدها كلما تميزت. وهو مرض نفسي كبير. تلغي في طريقها كل ما ليس هي كما تتصور نفسها. والمساحة اليتيمة الأقرب إلى التدمير المجاني هي المجال الأدبي، لأنه لا عقوبة فيها إلا الكلام. طبعاً لا شيء يمنع من الاعلان عن السرقات الأدبية إذا ثبتت. لكن من أجل ذلك، على الناقد المهتم بالظاهرة ان يشمر عن ذراعيه ويعول على أدواته النقدية وجهوده ويبدأ في العملية الشاقة لاثبات السرقة كما تقتضيها خصوصية هذا النوع من الدرس الأكاديمي ويثبت بأنها تقع خارج حدود التناص العادي. 

 إرهاب السّرقات الأدبية؟ 

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    عملية التناص او تأثير نص سابق شيء طبيعي في اي عمل ادبي اذ ان النص

    الادبي لا يمكن ان يسلم من تسربات نصوص تراكمت في ذاكرة الاديب بوعيه او دونه

    فلا شيء من لا شيء

    وتحياتي

  2. يقول سامح // الاردن:

    * أخ واسيني حياك الله .. لا تزعل نفسك
    في ناس تسرق أوطان بحالها واذا جاءت
    ع السرقة ( الأدبية ) فقط .. تهون .
    * وكل عام والجميع بخير وعافية.
    سلام

  3. يقول درة المتوسط تونس:

    للتاريخ فقط أقول انه في طفولتي المبكرة قرأت باللغة العربية رواية لا أنام للكاتب المصري احسان عبد القدوس لم أكن أشك فيه أو أتهمه بشيء الى ان قرات باللغة الفرنسية Bonjour tristesse ل Françoise Sagan ومن يومها امتنعت عن قراءة الروايات العربية ..

  4. يقول منى هنينغ:

    سياتي يوم يكتب فيه احد ما عن أدب الطفل في العالم العربي . كم من نصوص تكتب وتنشر بالعربية وتاخذ جوائز او حتى دون جوائز وهي هنا بالفعل ليست من أفكار الكاتب او قلمه بل منقولة من لغات اخرى.

  5. يقول سهى البرغوتي فلسطين:

    أليس وعي وثقافة الانسان عموما والكاتب والأديب على وجه الخصوص هو حصيله التجارب والقراءات التاريخيه ، وباعتقادي ان القارىء العادي وغيرالمتخصص في النقد الأدبي يستطيع التمييز بين انتحال النصوص وبين التأثر بالمعرفة التاريخيه اذا كان لا يحمل النظره التآمرية او صاحب مصلحه خاصه
    تحياتي العميقة للاستاذ واسيني الاعرج

  6. يقول شريفي الجزائر:

    اصبحت الكلمات عابرات للنصوص واي نص في اعتقادي ايا كان صاحبه و انتماؤه يخضع لا محاله لترسبات الذاكرة فتلك للنصوص حاضرة بوعي او دون وعي

  7. يقول جمـيلة من المغـرب:

    بدءاً أحيك أستاذ واسيني على كلماتك.
    ما أريد قوله هو إن تداخل النصوص أمر حتمي لا مَفر منه، فلا يمكننا أن نتحدث عن نص ابتدع من عدم أو على غير مثال سابق. إذْ لا بدَّ مِن ترابط النصوص ودخولها في علاقة تأثير وتأثر، هذا إذا كنا نومن بقانون الإبداع حقاً،،،
    وقد قال باختين في حديثه عن التناص في كتابه الماركسية وفلسفة اللغة إن: “كل كابة أو نقش امتداد لسابقاتها، تثير سجالا معها، وتنتظر ردود فعل نشطة في الفهم، تتجاوزها وتسبقها” وعليه فالنص بؤرة تتفاعل فيها النصوص اللاحقة والسابقة، وما من نص معاصر إلا وقد كُتب قبلاً بشكل أو بآخر.
    أيضاً السرقات فهي تأتي من تأثرنا بما سبق، فهي: “باب لا يعرى منه أحد من الشعراء” كما قال النقاد القدماء إذا فالتأثر حتمي.
    وقد تحدث عنها الامدي في الموازنة، ووضع لها مقياس محدد إذ ما جرى على الألسن، وما شاع من المعاني وأصبح كالمثل السائر بين الناس، لا يـعتبر سرقة شعرية.
    الفرق إذن أين يوجد؟
    فقد نجد الفرق على مستوى المنهج والقصدية.
    فعلى مستوى المنهج، كما أشار إلى ذلك خليل موسى، السرقات تعتمد السبق الزمني، وهي بهذا تعتمد المنهج التاريخي، فكل لاحق هو سارق لما سبقه، ودائما الأصل هو المبدع وهو الأجود.
    أما التناص فيعتمد المنهج الوظيفي، ولا يعير اهتماما للسابق بل للأجود فيهما، فإذا كان النص الجديد أبدع وأجود من النص المُناص، يُشهد له بالسبق والتميز.
    وهناك فرق في القصد أيضاً، فالسرقات تكون بقصد السرقة،، في حين يكون التناص عن غير قصد.

    أجمل تحية للأستاذ واسيني الأعرج.

  8. يقول محرز راشدي أكاديمي تونسي:

    القَصِيدَةُ اللَّعُوبُ وَالقَارِئُ زِيرُ النُّصُوصِ
    منطلق هذا المقال الموجز هو المنعرج الرّؤيوي والجماليّ الّذي دشّنته الحداثة الرّومنطيقيّة، واستدرك على ما فاتها المنجز التّفعيليّ، لتحقّق تاليا قصيدة النّثر ما يمكن أن نصطلح عليه بالعدول العنيف إن في مستوى التشّكيل العلامي للنصّ الشّعري وإن في مستوى مراجع القول وفلسفته المائزة.
    هذا المنعرج تحقّق في مستويات ومدارج كثيرة يعنينا منها بصفة خاصّة احتفاء النصّ الحديث بمختلف الفنون الأخرى واستدعاءه أساطير التّكوين والتّدمير، أساطير الخصب والجمال وكذا السّخط والعذاب، فضلا عن الانعطافة نحو النّصوص المقدّسة المسيحيّة والتّوراتيّة والتّشبّع بتجارب الأنبياء في مضانّها ثمّ ضيافتها في متون إبداعيّة مهمومة بفعل الانزياح والتّحويل والإخصاء والتّخصيب. والتّوجّه إلى السّحر واستدراج خواصّه وسماته إلى القصيدة – هذه المحرقة الّتي فيها انصهرت ألوان من القطع الفنّية وذابت بشكل أفقدها هويّتها الأصيلة وأكسبها هويّة طارئة.
    ففي كلّ علامة شعريّة تصرخ أصوات منها المتقادم ومنها المزامن والمعاصر، وكلّ قصيدة عبارة عن فضاء مفتوح على مهبّ من الضّيوف، من هذه الضّيوف من هو ثقيل الظلّ، قد فرض نفسه فرضا على الأب الفنّي للفضاء، فمقامه مقام الغفّاري من النّتوء والبروز، ومنها من هو مرحّب به وقد اُستدعي ولا يزال في العتبة ظاهرا للجمهور، فلا تنكره العيون المفكّرة، ومنها من تورّط في القاع وابتلعه القرار، وسُحب سحبا خفيفا إلى موقد الكيميائيّ فلفّه النّسيان وتلبّس بنسيج النصّ، فأخطأته القرّاء، وأعيته الحيلة قافي الآثار وهو يتلمّس الأثر المطموس ويتحسّس ممحاة الماحي.
    هذه الهجرة الجماعيّة لنصوص من مشارب متنوّعة، أُسهمت في تعويم المعني وتقطيع أوصاله وتعميته أحيانا، فكتابة الطّلسم نداء اخترق ملكوت النّصوص، فبات القارئ “الحاذق” كمن يمخر في عباب بحر من الظّلمات بحثا عن الكنز المفقود، إذ غابت الصّوى وانمحت العلامات، وغام الطّريق في “الضّباب”. وحينئذ ليس من سبيل إلى البقاء على قيد بناء معنى مؤقّت سوى مبارحة المنطق وميكانيزمات العقل، وإقامة القارئ في الكون الشّعري ضيفا مثقّفا، قد جرّب عنت التّدلال، وخبر وعورة شعابه، بل رحّالة عنيدا لا تنطفئ فيه بارقة أمل في درك حاجته من نصوص الغواية والمكر والمخاتلة والمداورة على الأشياء.
    هذا إذن باختصار مرجع قولنا إنّ القصيدة الحديثة بصفة عامّة قصيدة مثقّفة، مثقلة بثمارها، مسربلة بقداستها، لا يفقه مغالقها إلّا مثقّف، عامرة رأسه بالأسئلة، وجنّان تقيّأت أصابعه القحط واليباب، وتلفّعت بنار بروميثيوس صيّاد المعرفة الملتهبة.

  9. يقول محرز راشدي أكاديمي تونسي:

    فائض المعنى – فائض الحقيقة
    قبل أن نخوض في معوّقات النّبوّة الشّعريّة، نرتئي النّظر- أصوليّا- في صلة الرّؤيا/ النّبوّة بالصّمت، حتّى يتسنّى لنا تمييز شعريّة الصّمت من شعريّة ما لا ينقال. والرّأي عندنا أنّ النّبوّة لا تتناقض مع الصّمت، بل هي من صميمه.
    ذلك أنّ مدخل الإبداع الشّعري قد استوى مع الروّمنطيقيّة مدخلا ذاتيّا، مشدود الأواصر إلى البواطن والأعماق، بما يؤشّر على كون الشّعر الحقّ/ شعر النّفس لم يعد نتاج الوضوح والنّهار، وإنّما نتاج الإلغاز والعتمة (عالم اللّيل).
    ومعلوم أنّ العمق الإنسانيّ موسوم بالسّكينة التّامّة والهدوء المطلق عكس ما اشتهرت به الفضاءات العينيّة من ضجيج وازدحام. ولذا ذهب البعض إلى أنّ «الكتب الحقّة لا ينبغي أن تكون من إنتاج الضّوء السّاطع والحديث العابر بل من إنتاج الظّلام والصّمت» ، فالصّمت في هذه الحال لا تستوفيه عبارات العدم والموت والفراغ، بل يقف مدلوله على طرف نقيض من ذلك كلّه، لأنّه يرتبط بالعزلة والوحدة والتّأمّل العميق، وكأنّه معراج روحيّ يعرج بالشّاعر- النّبيّ إلى أصول النّشيد، ولعلّ ذلك ما عناه جبران خليل جبران عندما قال:« منبر الإنسانيّة قلبها الصّامت لا عقلها الثّرثار» ، إذ تبدّى في ملفوظه التّقابل بين القلب والعقل من ناحية، وبين الصّمت والثّرثرة من ناحية أخرى؛ فالصّمت درجة من اللّغة السّامية الّتي لا يدرك مآتيها من استهواه العقل.
    وفي هذا السّياق أيضا، اعتبر سارتر «الصّمت لحظة من الكلام» (Le silence est un moment de la parole)، حيث يتمّ إدراك الشّعر، وتحصل ولادته في صمت تأمّلٍ متوحّدٍ، واللّغة الشّعريّة الّتي تحتفظ بأثر هذا الانبثاق المتأنّي والحذر، هي لغة جوهريّة، سرّية ومقدّسة. هذا الصّمت الّذي تتضمّنه الكلمات، يحطّمه الدّال، ويستعيده المدلول، ويرمّم في سيرورة “التجلّي”؛ القراءة. وغالبا ما يكون المنطوق الشّعري والنّبوي صمتا مناهضا للتّقرير الكوني (Universel reportage) الّذي يرهقنا بضجيحه يوميّا. والشّاعرـ النبي – مثله مثل كلّ الأنبياء- يميل إلى العزلة والوحدة، ينزع إلى الصّمت أوان تلقّي الوحي الشّعري خشوعا وإجلالا لمقام الكشف، وقد ورد في الحديث النّبوي «إنّا معشر الأنبياء بِكاء» . ولكأنّ الصّمت تجربة امتلاء بالرّؤى والحدوس والإشراقات، وتكوّر الذّات الشّاعرة على ذاتها تجلي مخبّآتها، وتتفحّص أقاصيها القصيّة، وتقرأ أبجديّتها الملتبسة، وتتدرّب على فكّ مغاليقها؛ ألم يقل علي محمود طه بخصوص الصّمت: (الرّمل)
    إِنَّهُ الصَّمْتُ الَّذِي فِي طَيِّهِ ҉-;- أَسْفَرَ المَجْهُول والمَسْتُورُ ذَاعاَ
    ففي “السّكون المتنصّت”- والعبارة لنيتشه- يكون الشّاعرـ النّبي في حالةٍ من الصّفاء الرّوحي أشبه ما تكون بالحالة الصّوفيّة، فيها صعود، سفر عموديّ وامتصاص من رحيق الأعماق. أي أنّ النّبوّة مازالت لم تكتمل بعد، فهي في طور الجزر والطّي والتلقّي، ليكون المدّ والنّشر والبثّ تاليًا. وهذه المرحلة الثّانية هي الّتي ستحمل معها المعاناة والاستلاب وتهديد المعنى. ذلك أنّ نبوّة الشّاعر، بارقة منفلتة من الأبعاد، لاتحتويها الأسباب، منشقّة عن ضروب الاستبيان والاستدلال. وحينئذ تطرح إشكاليّة العلاقة بين النّبوّة واللّغة، أي في كيفيّة تصريف ما هو لحظي، فجائي، متزامن شعرًا، وليس خاف أنّ مادّة الشّعر(اللّغة) مادّة نظاميّة مقعّدة؛ خاضعة لتقطيع مزدوج ولمقولات العقل والمنطق. أمّا النّبوة فهي تدفّق المعنى وفيضه سيلًا جارفًا غير متكافئ مع التّمثيلات الرّمزيّة والأشكال التّعبيريّة الّتي أوجدها الإنسان من أجل تمثيل ما يعتمل في ذاته من مشاعر وأحاسيس، وقد جاء على لسان ميخائيل نعيمة في تقديمه لمجموعة جبران خليل جبران: «الفنون الّتي ابتدعها الإنسان حتّى اليوم للتّعبير عن هواجس النّفس لا تزال أضيق من أن تتّسع لكلّ ومضة خيال، ونبضة شوق، ورقّة حنين، ولحظة من تلك النّشوة العلويّة الّتي يحسّها من لمح سناء الحقّ ولو لمحة عابرة» .
    فالنّشيد الّذي مصدره يقظة الطّبيعة حيث الأصل والجوهر والمقدّس، فيه من غنى البدايات ما يمنح الشّعراء فائضا من المعنى بالكاد ينقال، وتنشأ من ثمّ مأساة الشّعر وتكون الأزمة.

  10. يقول الفاضل النايلي تونس:

    لمقال …
    سيف ذو حدين …
    حدّ أوّل: أتى على قضيّة ” التناصّ ” أو ” الحواريّة ” بماهي ظاهرة كونيّة تمسّ المنجز الإبداعيّ أيّا كان نوعه أوجنسهُ …وقد تناولت جملة النقود غربيّة أوعربيّة هذه الظاهرة بمختلف أشكالها و صورها وخصائصها و أبعادها .
    حدّ ثان : فيه حفزٌ للمؤسسة النقديّة العربيّة حتّى تجد الشروط والمقايسس والمعايير التي بها نقنّن الظاهرة …
    والسؤال :
    هل يمكن ” تكفير” النصوص وهي تتفاعل ،وهي تتضايف ، وهي تتحاور حدّ الجوار …؟؟؟ ليس من ” أخلاق ” النقد أن ننعت مُبدعا بالسارق … لأنّ ” المعاني مطروحة في الطريق “… و الإبداع كتابة على مطموس كتابة … وذكر أسماء لمبدعين ، اتهموا بـ ” التلاص ” قد يكون بوابة خلاص … لأنّ فعل الكلمة عندهم كفعل الرصاص … ولا مناص .

إشترك في قائمتنا البريدية