« المشهد الأخير» للقاص المغربي عبد الرحيم التدلاوي: الموت بين وعيين: الواقعي والفني

حجم الخط
0

تبدو ثيمة الموت من أبرز الموضوعات التي تتسلل إلى الأدب، باعتبارها الوجه المناقض للحياة، مادامت الحياة تحيا بشكل أو بآخر بالأدب، وقياس الموت ومقاربته أدبيا يعني أن هناك خللا في الحياة، ليس بمعناه الديني والوجودي الذي نسلم به كحتمية نهائية، فما نروم إليه هنا هو زيادة المنسوب الأحمر في وعاء الحياة، ذاك الموت الممنهج القائم على أفعال القتل والجريمة والاعتداء والتسلط، وما جاورها من صيغ عنيفة تتعقب حــــياة الإنسان وطمأنينته. هي إشارات كثيرة وفارقة في المجموعة القصصية الأخيرة التي تنتمي لجنس القصة القصيرة جدا «المشهد الأخير» 2018 للكاتب عبد الرحيم التدلاوي. فبعد قراءة أولية وفاحصة، لفتت انتباهنا هيمنة الموت والقتل بشكل لافت، بدءا بعتبة العنوان التي تشي، سواء عن عفو أم عن قصد، بتوصيف لفظة «المشهد» بـ«الأخير» تدليلا على كل نهاية حتمية بعد فعل حازم، ويتماهى هذا النزوع الموضوعي مع مجمل قصص العمل، حيث نجدها تغص بمعجم القتل والموت، مرفوقة بقرائن لفظية دالة (الرصاص، الجثة، السكين، البنادق، الصفعة، السجان، المسدس، النار…). إذن نحن أمام لغة معجونة بمعجم دموي غارق في القتل والموت والظلم قصدا أو رمزا، فمقصدية الكاتب بينة انشغالا واشتغالا، وهي تسعى لكتابة تجربته عبر توليف واع بين الواقعي والفني، أي رصد الواقع الإنساني العنيف المغلف بمظاهر الموت والقتل، رصد يتوسل بالقصة القصيرة جدا وجمالياتها الفنية والبلاغية.
لقد تعمدنا لملمة كافة السلوكات الإنسانية داخل ثيمة الموت، باعتبارها الحبل الناظم لعلاقات سيئة ونوايا مبيتة وأحقاد بين البشر. وفاتحة العمل، القصة الأولى «المشهد الأخير» تكاد تضعنا أمام ميثاق تعاقدي لقراءة العمل من وجهة النظر التي حددناها سلفا، فصورة الجثة في القصة قابعة وغارقة في ملف الشرطة بدون معرفة هوية قاتلها «الجثة غارقة في قتلها… المجرم حر طليق كالهواء…»، إنه القتل الممنهج الذي يؤشر إلى مكر الإنسان المتخفي، وكعادته وبحسه السردي الذكي، يضعنا الكاتب أمام روعة الاشتغال الفني القائم على المفارقة وخرق المألوف وصدامية القفلة، حتى يقدم لنا قصة قصيرة جدا مكتملة الأركان والبناء بدل تقرير بوليسي أو صحافي، إذ يجعل الجثة تخرج من ملف الشرطة «تتبع رائحة كانت أخر ما داعب أنفها الحساس» ليحيلنا إلى إعادة تمثيل قتلها في مشهدها الأخير الدال على فشل احتواء كل سلوك بشري فظ من قبل حراس الأمن والحياة الإنسانية «ضغطة واحدة على العنق كانت كافية». إنه لا يقدم تقارير بوليسية أو إخبارية تقريرية، بل يمتعنا بحسه السردي الواعي في التقاط فظائع الواقع ليضعها في قالب أدبي يؤصل جمالية القصة القصيرة جدا وهي تقارب بكثافتها وتقنياتها عنف الإنسان اتجاه أخيه الإنسان، إنه التوليف بين وعيين، الفني والواقعي، لذلك نحتار، ونحن نقرأ القصص، هل نتألم لفظاعة الموت أم نستمتع بجميل السرد؟
وحسبي أنهما معا ضالة القارئ، وقصدية الكاتب، فكما لو أننا أمام ورشة للكتابة اشتغالا وبناء وقراءة وشهادة واستنكارا، حيث يشرك الكاتب قارئه، وذلك أحد رهانات هذا الجنس الذكي، في كتابة النص حيث يوجه سؤاله عبر راويه إلى القارئ، حاشرا وحاثا إياه في الحدث ليخمن النهاية اللغز، وملء البياضات كما هو ظاهر في قصة «ملء الفراغ» (سرير منكوش، ثياب مبعثرة، كأسان فارغان إلا من ثمالة سائل أحمر، شمعة فقدت ذبالتها، كتب محلقة في الفضاء… ماذا تلاحظ؟ حتى لا يشط خيالك بعيدا، ورحمة بالقصة، فالمشهد عبارة عن تفتيش روتيني لرجال المباحث). والأمر نفسه في قصة «أمر» حيث يدعو قارئه إلى الثبات في وجه هذا الموت «إثبت مكانك… الأموات لا يخافون أصوات البنادق». وتترادف مشاهد التسلط حاضرة بقوة، إذ يصور في قصة «ظل» السجن كفضاء لهذا الموت الممنهج، والسجان كسارق للأحلام «لم أكن وحيدا في السجن، كان السجان يرافقني دوما، في النهار يحرسني، وفي الليل يختلس أحلامي»، إنها عملة واحدة لوجهين، سجن الجسد، ومصادرة الأحلام. وفي قصة «مرآة» يصف سلوكا بشريا شاذا يفرغ الإنسان من شرطه الإنساني النقي ليصبح كائنا يقتل ببرودة أعصاب ملء النقمة والوحشية والضراوة، بدون أدنى وازع: «ببرودة حمل المسدس، وببرودة صوبه إلى صدغ غريمه، وببرودة أطلق عليه النار، فسقط غارقا في حار دمه، المسدس الذي صممه»، فتعمد تكرار كلمة (ببرودة) ثلاث مرات يكشف عن هذا القصد الوحشي المتعمد، ونعلم جيدا وظيفة تقنية التكرار التي تدل على بلاغة الصنعة لدى كاتبنا، كما أن النهاية جاءت لتعاضد وطأة السلوك وعنفه، فبطل القصة السلبي لم يصنع تسامحا أو معروفا أو قيمة محمودة تحسب له، بل صمم بهذا (العقل) الإنساني الغريب آلة قتل / مسدس ليس إلا. ومن النهايات اللافتة والطريفة التي تليق بقصة قصيرة ماتعة، نجدها في قصة «سارد»، فحتى الموت الرمزي/ المحو القسري، يتسلل إلى شخصيات الكتاب/ السارد، حيث يجهز على شخوصه الورقية محوا بسبب خصام بينها بعد مودة لم تكتمل «أطل على مخلوقاته العجيبة، وجدها تتخاصم في ما بينها أيهما أقرب إليه مودة ورحمة، سرعان ما صار الخصام صراعا داميا… سلط عليهم ممحاة غضبه».
فالقتل والموت يسيح كبقعة زيت في جميع مظاهر الحياة، إنها السادية المغلفة بالغضب والنقمة والتصفية المتعمدة، وتلك سمة تعكس سلوكات ومواقف البشر المزاجية والسريعة التقلب. وفي سياق أخر، لا يخلو من تسلط وإقصاء وتصفية، يصور لنا في قصته «نصب» أقصى مظاهر التمويت الجسدي والرمزي في حق متنوري الأمة ومثقفيها على حساب صانعي التسلط والقبح «نصبوا للراقصة والمغنية تمثالا من البرونز… نصبوا للعداء تمثالا من ذهب … نصبوا لأنفسهم تماثيل من الماس والياقوت… ونصبوا للمفكر كمينا، وللشعراء أعواد مشانق» فتكرار فعل/ موقف (نصبوا) أربع مرات، هو تكرار تناظري صدامي للأحداث والمواقف البشرية، تكرار يؤكد فداحة القتل الرمزي للفكر والفن والأدب، إنه الموت مرة أخرى، لكنه بصيغة الجهل بأدوار المتنورين الحقيقيين صانعي تقدم البلاد والعباد، هنا بالذات يضعنا الكاتب مجددا أمام نص باذخ بصنعته، ومؤلم بدراميته. هذه هي أبرز سمات عبد الرحيم التدلاوي، حيث يكسر أفق وتوقعات قارئه، ويخلخل ذائقته، ليوقظه على أنقاض واقع يتآكل، ليشحذ وعيه، ويجعله أسيرا بين وعي سردي جمالي وبين وعي واقعي يحتاج إلى مزيد من النقد.

٭ كاتب مغربي

« المشهد الأخير» للقاص المغربي عبد الرحيم التدلاوي: الموت بين وعيين: الواقعي والفني

سعيد السوقايلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية