غياب الدولة وتفاقم الحرب الأهلية في ليبيا طيلة السنوات الماضية جعلا منها مركز استقطاب للجماعات المسلحة، وبوآها مكانة محورية بين سوريا والعراق شرقا، وبلدان الساحل والصحراء غربا وجنوبا. وزادت المخاوف من تحوُلها إلى بؤرة لتلك الجماعات مع انهيار «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» في سوريا والعراق في 2017. واستطرادا غدت ليبيا مركز تجمُع لعناصر متشددة وعنيفة آتية من بلدان مختلفة لم تستطع أن تنفذ مشاريع انتحارية في بلدانها الأصلية. وأظهرت دراسة أصدرها أخيرا «مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، وأعدها الخبير هارون زيلين المتخصص في الجماعات الجهادية السنية في شمال افريقيا وسوريا، أن تنظيم «الدولة» كان يُخطط لإقامة ولاية في تونس تحت اسم «ولاية افريقيا»، وهو الهدف الذي تجلى فعلا من خلال العملية التي رمت إلى السيطرة على مدينة بن قردان القريبة من الحدود المشتركة مع ليبيا، في آذار/مارس 2016. وفشلت العملية بفضل تعاون المدنيين مع قوات الجيش على تحييد المهاجمين واعتقالهم.
وبالرغم من ذاك الاخفاق، ما زالت مجموعات مسلحة تتحصن في جبال الشعانبي وسمامة وورغة، وتُنفذ بين وقت وآخر عمليات تستهدف عناصر الجيش أو قوات الدرك الخاصة التي تُحاصر المسلحين وتسعى للقبض عليهم. وقد تؤدي المزايدة بين تنظيم «الدولة» و»كتيبة عقبة بن نافع» الفرع التونسي لتنظيم «القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي»، إلى تصعيد أعمال العنف التي تستهدف مدنيين وعسكريين على السواء، لا بل الرُعاة الذين يُدلُون بمعلومات عن حركة العناصر المسلحة في سفوح الجبال الممتدة على طول الحدود التونسية الجزائرية. وحتى إن كان الحضور العسكري لتنظيم الدولة على الأرض محدوداً في الوقت الراهن، لا يمكن استبعاد ظهور دينامية تنطلق من وضع خطة طويلة الأمد لإنهاك القوات التي تحاصر الجبال المذكورة، وربما تنفيذ عمليات في أماكن غير متوقعة.
مُعاودة انتشار
بعد إخراج مقاتلي «تنظيم الدولة» من مدينة سرت الليبية، اتبعت الجماعات المسلحة عموما خططا جديدة لمعاودة الانتشار في المنطقة الممتدة من شمال افريقيا إلى جنوب الساحل والصحراء، مُعتمدة على تحالفات مع بعض القبائل وعلى مساومات وترتيبات مع شبكات التهريب العابرة للحدود الدولية. وتُظهر الاعتقالات التي يقوم بها الجيشان الجزائري والتونسي في المناطق الحدودية مع ليبيا أن هناك محاولات لاختراق الحدود والبحث عن ملاذ آمن لتفادي الضربات الجوية الأمريكية، التي تستهدف بين وقت وآخر قياديين مفترضين في الجماعات الإرهابية. وأفاد بيان صادر عن قيادة القوات الأمريكية في افريقيا «أفريكوم» أن سلاح الجو الأمريكي وجه نحو 495 «ضربة جوية دقيقة»، دعما لـ»حكومة الوفاق الوطني»، حتى 19 كانون الأول/ديسمبر 2016، تاريخ وقف القصف الجوي. لكن بالرغم من الخطط التي وُضعت لاحتواء تلك الجماعات وكسر شوكتها، يعتقد خبراء أنها حافظت على قوتها العسكرية والمالية، واستطاعت أن تُخرج من سرت قسما من مقاتليها لم يتسن تقديرُهُ، بالاعتماد على مساومات لقاء الانسحاب بأقل معارك ممكنة. وزادت أهمية الساحة الليبية بعد هزيمة التنظيم في كل من سوريا والعراق، وخاصة بعد إخراجه من الموصل والرقة، إذ أن ليبيا تقع في نقطة الوصل بين المشرق العربي وشمال الصحراء الكبرى، ما يُتيح للعناصر المنسحبة ملاذا آمنا نسبيا. والأرجح أن عناصر الجماعات، وخاصة «داعش»، تمددت في الجنوب الليبي لأن غياب الدولة هناك يمنحها فرصة لتجميع القوى وإقامة مراكز تدريب، انتظارا للوقت المناسب للتحرك مُجددا نحو الشمال. ويظهر ذلك في تمركز مجموعات من «داعش» وتنظيمات أخرى في محيط مدن الجنوب الليبي من الكفرة إلى سبها.
ويُعتبر توجُه الولايات المتحدة، في عهد الرئيس الحالي ترامب إلى تسديد ضربات جوية للجماعات المسلحة في جنوب ليبيا عنصرا مهما في الصراع الدائر في الإقليم، إذ نفذت القيادة العسكرية الأمريكية في افريقيا «أفريكوم» ضربة جوية وصفتها بـ»الدقيقة» في آذار/مارس الماضي، بالقرب من مدينة أوباري (جنوب غرب). وأسفرت العملية التي تمت بالتعاون مع حكومة الوفاق الوطني، عن مقتل اثنين من كبار قادة «القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي»، أحدهما موسى أبو داود. ومنذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة ركزت وزارة الدفاع الأمريكية ضرباتها على مقاتلي «داعش» و»القاعدة». وتؤكد مصادر إعلامية أمريكية أن إدارة ترامب أعدت تقويما للدور العسكري الأمريكي في شمال افريقيا وغربها، في أعقاب مقتل أربع جنود أمريكيين في كمين في النيجر خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وقررت تكثيف ضرباتها الجوية على أهداف في المنطقة، إلى جانب إنشاء قاعدة للطائرات من دون طيار في أغاديز في النيجر، بكلفة تُقدر بمئة مليون دولار.
عمليتان
ومنذ أواخر العام الماضي أطلقت كلٌ من حكومة الوفاق (طرابلس) والجيش الوطني (المنطقة الشرقية) عمليتين متوازيتين لإخراج الجماعات المسلحة من مدن الجنوب، الأولى قادتها وزارة الدفاع في حكومة المجلس الرئاسي اعتبارا من نيسان/أبريل 2017 وأطلقت عليها اسم «الأمل الموعود»، وترمي لاستعادة الثكنات والمواقع التي تسيطر عليها الجماعات في مناطق الجنوب. كما أطلق الجيش الذي يقوده المشير حفتر عملية مماثلة أطلق عليها اسم «الرمال المتحركة» لاستعادة قاعدة الجفرة الجوية التي كانت تسيطر عليها «سرايا الدفاع عن بنغازي» الموالية لحكومة الوفاق. وبادرت «سرايا الدفاع» في الإعلان عن تسليم القاعدة لوزارة دفاع حكومة الوفاق.
وتدلُ العمليات التي يُنفذها «داعش» مستهدفا قوات أمريكية وفرنسية في مناطق شمال مالي، على أنه ما زال يُحافظ على قوة ضاربة، وإن كانت محدودة، في منطقة الساحل، حيث ترابط قوات فرنسية منذ إطلاق عملية «برخان» في الأول من آب/أغسطس 2014، لملاحقة الجماعات المسلحة، وقوامُها 4000 جندي فرنسي. وبعدما كانت مناطق شمال مالي والنيجر تمثل خاصرة رخوة أتاحت للجماعات المسلحة التفوق على جيشين ضعيفين وبسط سلطتها على منطقة تزيد مساحتها عن مساحة فرنسا في شمال مالي، اتفقت برلين وباريس مع كل من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، على تعبئة 5000 عسكري، في عملية واسعة لطرد عناصر الجماعات من المنطقة، غير أنها لا تحلُ محل عملية «برخان».
غياب التنمية
ويشعر مراقبون في أعقاب مرور أقل من سنة على الإطلاق الفعلي للعملية المسماة «مجموعة الخمسة من أجل الساحل» أو «دجي فايف»، أن التعاطي العسكري البحت مع الظاهرة الإرهابية، أدى إلى إغفال أساسها الاجتماعي والاقتصادي المرتبط بانتشار الفقر وغياب التنمية. وبسبب تواضع إمكانات البلدان الافريقية الخمسة لا يمكنها تخصيص اعتمادات أكبر للنفقات العسكرية، إذ أنها تمنح الأولوية للتربية والتأهيل المهني المُوجهين إلى فئات الشباب، فمتوسط سن السكان في مالي، على سبيل المثال، لا يتجاوز 16 سنة. ويسعى الفرنسيون لإقناع السنيغال وغينيا بالانضمام إلى مجموعة الخمسة، خاصة أن هذين البلدين لم يكونا عرضة لعمليات إرهابية حتى اليوم. وقبل حسم هذا الانضمام، يجد أعضاء المجموعة أنفسهم مُرغمين على مجابهة تحديات واستحقاقات أخرى، من ضمنها سرعة النمو السكاني وتدهور البُنى الصحية وبطالة الشباب، إضافة لانتشار الفساد. ويبدو الأوروبيون وكأنهم بدأوا يفكرون بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة، إذ عرض كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، على بلدان الساحل والصحراء، في تموز/يوليو الماضي صيغة تعاون أطلقا عليها اسم «تحالف الساحل»، بوصفها آلية لتجميع برامج الدعم المقدمة لخطط التنمية في البلدان المعنية. إلا أن ثمار هذه الآلية لم تظهر بعدُ، ما جعل المخاطر الإرهابية تبقى في المستوى نفسه تقريبا. ويعزو خبراء عسكريون عدم فعالية الخطط العسكرية إلى محدودية تجهيز القوات الافريقية بالسلاح والعتاد.
في البدء، ركزت قوات مجموعة الخمسة على شمال مالي، بوصفه المسرح الذي تتحرك فيه الجماعات أكثر من سواه، وافتتحت مركز قيادة تكتيكي في نيامي عاصمة النيجر، فيما أقامت مقر الأركان العامة المشتركة في سيفاري وسط مالي. غير أن ذلك لم يمنع «داعش» من تنفيذ عمليات استهدفت أساسا الجنود الفرنسيين، الذين لقي اثنان منهم مصرعهما في شباط/فبراير الماضي. وتتعرض القوات الافريقية، خاصة المرابطة في مالي، لهجمات مستمرة من عناصر الجماعات المسلحة، أوقعت عدة إصابات في صفوفها. واستهدفت الهجمات أيضا العناصر العاملة في قوة «مينوسما» التابعة للأمم المتحدة، والمكلفة بإعادة الاستقرار إلى شمال مالي.
قوس داعشي
يمتد قوس الحضور العملياتي لـ»داعش» من وسط مالي جنوبا إلى مدينة درنة في شمال شرق ليبيا، وهو يعتمد على تحالفات محلية أسوة بتحالفه مع «مجلس شورى شباب الإسلام» في درنة، الذي أعلن ولاءه للتنظيم منذ ثلاث سنوات، فيما كشف زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أن أقاليم برقة وطرابلس وفزان انضمت إلى «تنظيم الخلافة». وإلى جانب العناصر المسلحة يعتمد التنظيم على الخلايا النائمة والكتائب الإعلامية، التي تبث برامج مختلفة لليبيين لحضهم على الانضمام إليه. ولذا لا يمكن تحديد موقع معين أو بضعة مواقع بوصفها معاقل التنظيم في ليبيا، إذ أن جميع مناطق الجنوب هي عمليا مضمارٌ مفتوح أمام عناصره. لكن لوحظ أن الضربات العسكرية التي تلقاها التنظيم في ليبيا وخارجها، جعلته لا يُكرر العمليات الاستعراضية، التي كان نفذها حليفه «تنظيم أنصار الشريعة»، في عدة مدن ليبية، في أعقاب الإطاحة بالنظام السابق. ومن تلك العمليات التي أثارت اشمئزاز الرأي العام في حينه، هدم الأضرحة والتماثيل وتدنيس المقابر وحرق علب السجائر وإتلاف النرجيلات وتحريم بعض أصناف التجارة. ولم تمنع تلك الاعتداءات التنظيم من تنفيذ هجمات دموية عدة، في شريط يمتدُ من العاصمة طرابلس غربا إلى بنغازي شرقا وما وراءها. ومن أشهر تلك الهجمات التي تبناها التنظيم عمليات استهدفت السفارة الجزائرية وفندق كورنثيا في العاصمة طرابلس، زيادة على اغتيالات استهدفت قيادات عسكرية وأمنية، أساسا في بنغازي.
تقدُمٌ نسبي
ويجوز القول إن المنافسة بين الديناميتين الجهاديتين الرئيستين في ليبيا «تنظيم الدولة» و»القاعدة» أسفرت عن تقدُم نسبي للأول على حساب الثانية. وربما يُعزى ذلك، من ضمن عناصر أخرى، إلى طبيعة الخطاب الإعلامي للتنظيم، ولا سيما الموجه للشباب، الذي يشكل أداة ناعمة في خدمة القوة الغاشمة. ويقود هذه الحرب الإعلامية جيش من الشباب العاملين على شبكات التواصل الاجتماعي، ممن غُسلت عقولهم، مستخدمين آلة دعائية شديدة المضاء. هذا الصدى الذي يلقاه الخطاب المتشدد والتكفيري يبعث على القلق لتلقفه من بعض الشباب المتمرد على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وسط صعوبات ما فتئت تتفاقم على جميع الأصعدة، مُشجعة على الغلو والتطرف.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن المعسكر الموالي لقائد الجيش المُعين من البرلمان خليفة حفتر يُضخم من خطر الجماعات المسلحة لتبرير المعارك التي يخوضها في شرق ليبيا بعنوان مكافحة الإرهاب، والتي ترمي لتعزيز سلطاته وترســيــخ هـيــــبته في إقلــيم برقة (الشرق) والجنوب الليبي، في أفق معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة للعام الجاري.
رشيد خشانة